يميل دعاة الإصلاح السياسي في المنطقة العربية وتدعمهم في ذلك المنظمات الدولية والدول المتقدمة إلى تفضيل نهج الإصلاح التدريجي من خلال نشاط مؤسسات المجتمع المدني ونشر الوعي بمبادئ الديمقراطية.
وتعود أسباب ذلك لكون أن هناك اعتقاداً بأن المجتمعات العربية لم تنضج وتتطور بعد، وخصوصاً فيما يتعلق بموضوع «الديمقراطية»، بمعنى آخر أن المجتمعات العربية غير جاهزة للتغيير، ولذا فإن مؤسسات المجتمع المدني تستطيع أن تسد هذا الفراغ وتمهد لأرضية التدرج بشأن التغيير من خلال نشر الوعي والتثقيف.
ولقد ظل هذا الاعتقاد سائداً لفترة في المنطقة العربية حتى جاءت رياح الربيع العربي في العام 2011 وقلبت موازين ذلك. فالمجتمعات العربية ما عادت ترضى بهذا الأسلوب الذي ظل ومازال بطريقة ما أكثر تقبّلاً للأنظمة بالمنطقة من ناحية النشاط المدني الذي لا يتحدى سلطتها مباشرة، مقارنة مع النشاط المباشر الذي إما يطالب بإسقاطها كلياً أو إصلاح نظامها السياسي.
في المقابل هناك من يرى أن الأولوية للإصلاح السياسي، وأن المجتمع المدني لا قوام له بدون دولة تحترم الحد الأدنى من الحريات وحقوق الإنسان، ما يجعل الأمر أشبه بحلقة مفرغة.
ويرى محللون ضرورة الضغط على الحكومات مباشرة لكي تتقبل الإصلاح من قبل أنظمة أدركت أن حتمية التغيير في ظل الضغوط الأجنبية أو تصدع في النخب الحاكمة، يمكن إذا صدق أن يكون أقصر الطرق إلى الحكم الصالح وأقلها كلفة في الوقت نفسه.
الملفت أن الأنظمة في المنطقة مشغولة في قمع ما قد يخلّ بركائز فساد الدولة من خلال شتى الوسائل، لذا فتبقى مسألة الإصلاح موضوعاً مطاطاً ووعوداً في الهواء لن تغيّر من واقع المجتمع أو تفي بمطالبه وحقوقه. لأن الأنظمة لا تريد حلولاً ولكن السير نحو سياسة عدم المبالاة والهروب إلى الأمام والمماطلة طويلة الأجل من أجل استمرار وضع يخدمها فقط، ولا يخدم المصلحة العامة بالضرورة، والأمثلة كثيرة من الخليج إلى المحيط.
لذا فإن أسلوب المناورة عبر إجراءات شكلية والترويج لها عبر أقلام الصحافة الحكومية لن يحقق إصلاحاً حقيقياً، وإنما إصلاحاً شكلياً من أجل التغطية على عجز الأنظمة في تحقيق الدول المتكاملة المبنية على أسس ديمقراطية متعارف عليها دولياً وليس على أسس فئوية أو قبلية أو أسرية.
ويذهب بعض المراقبين إلى أن الأنظمة العربية قد طوّرت نموذجاً فريداً من «الليبرالية الاستبدادية»، لا تجدي معه قدرات مؤسسات المجتمع المدني المحدودة والمحارَبَة بوسائل عديدة، منها خلق مؤسسات حكومية داخل المجتمع المدني لتشتيت الجهود وإلغاء فكرة الديمقراطية الحقيقية ومبادئها الأساسية، إضافةً إلى تعزيز غياب مجتمع سياسي فاعل يتحرك بحرية.
واليوم ومن خلال قراءة المشهد السياسي العربي، فهو للأسف لم يتخلّص كلياً من ممارسات الاستبداد والعقلية الأمنية حتى بعد تخلص بعض الشعوب من أنظمتها الدكتاتورية، والسبب يعود لوجود أنظمة أخرى طاغية مازالت تحظى بدعم وحماية من القوى الدولية التي تحتاج إلى مواردها وتحالفها الاستراتيجي الذي يساعد على حماية مصالحها.
هذه الحماية وهذا الدعم مازال يدفع بتلك الأنظمة لمقاومة أي حدث أو تغيير يطرأ في بلد مثل مصر التي بدورها قد تؤثر في مجريات الساحة داخل المجتمعات العربية وهو ما يعدّ بمثابة جرس إنذار لاستمرار أنظمة قريبة ومحيطة من مصر لا تريد أحداً أن يحاسبها أو يطالب بتغيير أنظمتها المحمية من قوى تؤمن بالديمقراطية، ولكن تفرضها على هذه الأنظمة للاعتبارات التي تم ذكرها في المقال.
في الوقت نفسه، هناك من يرى ضرورة تدخل هذه القوى لصالح الديمقراطية والتوقف عن دعم الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة العربية ومعاقبتها من خلال فرض عقوبات أو التدخل عسكرياً كما حدث في العراق أو الضغط من خلال حلول توافقية كما حدث مع البلدان التي شهدت صراعات عرقية ودينية على اعتبار أنها الحل الوحيد والمتاح للتغيير.
ورغم الجدل العربي في هذا الجانب فإن خيار التغيير والإصلاح لا تجني ثماره إلا من خلال الداخل وليس الخارج، فحق تقرير مصير الشعوب هو ما يحقق الغايات المنشودة لأنها تنبع من الداخل ويتولى أمرها حراك القوى الاجتماعية الحية صاحبة المصلحة فيه، مثل المجتمع المدني والنقابات وغيرها كما حدث في دول أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية التي كسرت حواجز احتكار الدولة للنشاط السياسي ورفعت قدرات المجتمع على مقاومة آليات القمع التي كانت تستخدم لشلّ المجتمع.
صحيفة الوسط البحرينية – 03 يونيو 2012م