الى أين يتجه العالم العربي؟..هل انتهى زخم “الربيع العربي”؟..وما هو طابع المراحل الانتقالية في البلدان التي حقق فيها (“الربيع العربي”) اختراقات نوعية في مشهدها السياسي العام؟
بعد مرور ما يقارب السنة ونصف على اندلاع موجة الاحتجاجات الشعبية الواسعة النطاق وغير المسبوقة في عدد من البلدان العربية والتي ذهبت اصطلاحا فيما بعد بمسمى “الربيع العربي”، تبدو صورة الواقع المستجد في بلدان ذلكم “الربيع” للناظر المتمعن فيها وكأنه أمام لوحة سوريالية تحتاج لأدوات تحليل خاصة لتفكيك طلاسمها.
ولعل أول طلسم فيها ذلك المتعلق بتربع من هم في خريف العمر على السلطة لشغر مواقعها التي كان قد “حررها” من هم في ربيع العمر، الذين كانوا في الميادين في طليعة الأمواج البشرية التي أسهمت بصورة حاسمة في احداث التغيير.
أما الطلسم الثاني الذي قد يبدو لأول وهلة غير مفهوم في ضوء فرضية توقعات التغيير الايجابية، فهو ذلك المتصل بتكرار اسلوب الاستحواذ على السلطة الذي كان الطابع الموسوم لاسلوب الوصول الى السلطة في العالم العربي خلال العقود الماضية. فالذين كانوا يُعيبون على من هم في السلطة ما قبل عواصف “الربيع العربي” بأنهم اختطفوها بالانقلابات ووسائل الغدر الأخرى غير المشروعة، اذا بهم يتحولون الى مشاريع طغيان جديدة وذلك برسم أساليب وفنون التكالب الماكرة التي استدعوها من مدونات أجنداتهم الحزبية غير المعلنة.
وبسبب هذا التكالب الذي أساء كثيرا لـ “الربيع العربي”، وكذلك انفراط عقد القوى الشبابية – غير المنظمة أصلا – والقوى الاجتماعية المتشاركة معها في احداث التغيير النوعي اللافت، فقد تمكنت القوى المضادة لـ “الربيع العربي” بدعم من امتداداتها الدولية والاقليمية، من استعادة زمام المبادرة والسيطرة والتحكم جزئيا في مسار المراحل الانتقالية في بلدان “الربيع”..الهشة. والشواهد على ذلك أكثر من ان تُحصى، ليس أقلها، في مصر على سبيل المثال، التلكؤ الواضح في تقديم رموز الفساد والاستبداد للعدالة، بل وتمكين عدد منهم من العودة للمشهد و”تمريرهم” قضائيا وتسويقهم شعبيا كنقذين من “المجهول” القادم.
وفي مصر أيضا “قررت” القوى المدنية الحداثية توزيع ولاءاتها على أكثر من مرشح رئاسي “لكي تضمن”، على ما يبدو، تشتيت واحراق أجزاء مهمة من قوتها التصويتية!
وفي تونس تتسارع عملية التفكك والتشرذم داخل حزب رئيس الجمهورية المؤقت المناضل السابق في مجال حقوق الانسان المنصف المرزوقي، حزب “المؤتمر من أجل الجمهورية” الذي كان يُنظر اليه حتى وقت قريب على انه “الجناح” الذي تستظل به القوى المدنية لموازنة التوجهات والقوى السياسية الدينية بقيادة حزب النهضة الحاكم مؤقتاً (خلال الفترة الانتقالية).
هو ذات التكالب الذي حرم القوى المدنية الحداثية من منافسة و”مغالبة” التيارات الدينية المتشددة ذات الخطابات الملتبسة، ان نلم تكن ملغومة، فيما يتصل بمستقبل مسارات التنمية الكلية.
وهكذا فان المشهد الذي أمامنا بعد مضي سبعة عشر شهرا على انطلاقة “الربيع العربي” هو على النحو التالي: في جانب هناك تكالب على مواقع السلطة من قبل النخب السياسية للقوى الاجتماعية التي شاركت في الحراك الشعبي العارم لموجات “الربيع العربي”، في اعقاب عمليات التفكك والتشرذم التي سرى مفعولها مع بداية المرحلة الانتقالية. وفي جانب آخر هناك ما يمكن أن نطلق عليه “الاحتيال السياسي” الذي لجأت اليه القوى المضادة للتغيير، بالتآزر والتساند مع بعض امتداداتها الاقليمية والدولية، من أجل قطع الطريق على الثورات وحركات التغيير العارمة للوصول الى السلطة والسيطرة على واحتواء “منسوب” التغيير.
ولعل هذا ما يجعل فترة المراوحة الحالية في المشهد السياسي في أقطار “الربيع العربي”، أقرب الى مرحلة الاستيعاب واعادة السيطرة والتكيف، منها الى المرحلة الانتقالية من نظام سياسي-اقتصادي ذي محتوى اجتماعي معين الى نظام سياسي-اقتصادي-اجتماعي آخر، ولكن من دون أن يعني ذلك حسما نهائيا للصراع بين القديم “المنتهية صلاحيته وولايته” والقادم “الجديد” الذي لازال يبدو مصمما على احداث التغيير المنشود.