تصدر الشباب الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية والتي كانت ستتحول الى ثورات حقيقية لو أنها أدت الى تغيير جوهري في الانظمة السياسية وأقامت نهجا اقتصاديا واجتماعيا يختلف عما هو قائم. لكن سرعان ما انكفأ الزخم وبقي الشباب في الساحة بينما زحفت القوى الأكثر تنظيما إلى السلطة, وهي الأبعد عن أهداف التغيير التي وحدت ملايين الناس الحالمين بكسر قيود الفقر والحرمان والذل والاستبداد. ومنذ البداية سُلطت الأضواء على الشباب ودورهم في الحراك من حيث التعبئة والتنظيم. والواقع أن قلة من الشباب الذين تمكنوا من وسائل الاتصال الحديث وأساليب التواصل الاجتماعي، وينتمي بعضها لتنظيمات يسارية وليبرالية وبعض التيارات الاسلامية وأخرى ارتبطت بجهات أجنبية وتدربت على أيدي أجهزتها، هي التي كانت المايستروللحركة التي جرّت خلفها كافة الفئات الاجتماعية وحفزتها على قهر الخوف والتردد، فنزلت الى الشوارع والميادين وفرضت تغيير رؤساء وبعض رموز الحكم في عدد من الدول العربية.
وكما كان الحراك الشبابي العارم مفاجأة للمتابعين للشأن السياسي، فإن انحسار هذا الدور وانتقال زمام المبادرة الى قوى سياسية ودينية بدأت في جني ثمار الحراك والإمساك بمفاصل الحكم، أثار العديد من الأسئلة وأربك المحللين الذين كانوا يتوقعون مسارا آخر لتلك الانتفاضات والاحتجاجات يكون للشباب فيها دور ريادي يُجذر من الحدث ليكون التغيير ثوريا و يؤسس لأنظمة ديمقراطية عادلة. الشباب كفئة عمرية يختزن من الطاقات وروح التمرد والتحدي ما يؤهله ليكون رائدا ووُقود أية حركة احتجاجية أو انتفاضة أو ثورة متى ماتسلح بنظرية ثورية. هكذا كان في الثورة الكوبية وفي الاحتجاجات العنيفة في فرنسا في الثمانينات وفي العديد من التحركات المطلبية والسياسية في العالم بما فيها بلادنا البحرين. غير أن فئة الشباب كغيرها من الفئات العمرية لا تشكل نسيجا اجتماعيا واحدا، ومحكومة بالمحدودية الزمنية لأنها تنتقل طبيعيا مع الوقت الى فئة عمرية أخرى ليحل محلها جيل آخر وهكذا. لذا فإن ما توقعه البعض أو نادى به من تشكيل أحزاب للشباب تؤطرهم وتوحد رؤاهم لا يخرج عن التوقعات و الرغبات الطوباوية التي لا تقوم على قراءة صحيحة لطبيعة الفئات العمرية وتناقضاتها البنيوية في الفكر والموقع الاجتماعي .
الشباب كغيرهم من الفئات ينحدرون من أصول طبقية وينتمون الى مدارس فكرية وأيديولوجية مختلفة قد تصل الى درجة التناقض التناحري. وهم وإن اجتمعوا في العامل النفسي والعنفوان الشبابي المشترك، لا يشكلون وحدة فكرية أو اجتماعية تؤهلهم للتأطر في بنى حزبية خاصة بهم والانتظام في برنامج سياسي وفكري موحد. لذا كان من الطبيعي أن تنقض على حراكهم قوى سياسية منظمة تملك المقومات التنظيمية والمادية والفكرية للإمساك بالسلطة. وفي الكثير من التحليلات السياسية يسود تعبير الإحباط في وصف حالة الشباب بعد أن صُدموا من أن آخرين غيرهم تصدروا واجهة السياسة دون أن يكون لبعضهم أي فضل في إسقاط هذا الحاكم أو ذاك بل ومنهم من عارض التغيير أو نأى بنفسه عنه.
هذا ما يمكن قراءته من انحسار عدد مواقع التواصل الاجتماعي وابتعاد الكثير من الشباب عن التجمعات والاعتصامات، و انجراف آخرين نحو الفوضى والاحتجاجات العقيمة من حيث الأهداف والتوقيت. و في المقابل استُهدف الشباب من قبل القوى التي أفزعها الحراك واحتمالات ثورة جذرية تقضي على مصالحها وتعيد السلطة والثروة الى الشعب، فعملت على عزلها عن القوى الأكثر ثورية في المجتمع بترويج فكرة الأحزاب الشبابية اشراك بعض الشباب، ممن ساهموا في الحراك، وفي السلطة التشريعية و التنفيذية على حساب الشباب المنتمين الى الأحزاب الوطنية التقدمية أو الليبرالية. هذا التضليل الذي مارسته بعض القوى والشخصيات السياسية والاعلامية وبعض وسائل الإعلام ساهم الى حد بعيد في بلبلة الحركة الشبابية وابعادها عن الانتظام في صفوف القوى السياسية الأقرب لطموحاتها مما أضعف الشباب وهذه القوى على حد سواء.
المعضلة الأخرى أن قطاعا واسعا من الشباب المأخوذ بالحماس تاه في عاصفة الصراع بين مختلف القوى السياسية وبين هذه وأطراف السلطة، وتمكن البعض من توظيفهم في صراع ليست لهم فيه مصلحة، كالصراع بين الاسلام السياسي بأطيافه في مصر مع المجلس العسكري الحاكم. وإذ يشكو هؤلاء الشباب من غدر الإخوان بهم وجموحهم المجنون للاستئثار بالسلطة فانهم في المقابل يؤازرونهم في خلافاتهم مع المجلس العسكري والقوى السياسية العلمانية عبرنزولهم المستمر الى الساحات بشعارات الإسقاط ضد العسكر مع معارضتهم للبديل الإخواني السلفي. هذا التناقض في المواقف السياسية يعود بالدرجة الأساس الى نقص الخبرة وغياب أدوات التحليل السياسي، والميل الشديد لدى بعض الشباب الى الراديكالية البعيدة عن التحليل الموضوعي للبنية السياسية والواقع الاجتماعي وبالتالي ضبابية الطرح السياسي وغلبة العاطفة والحماس الذي قد يصل الى الفوضى والمعارضة من أجل المعارضة، مع وجود من ينفخ في هذا الاتجاه بتبريره على أنه من طبيعة الشباب وبالتالي فهو حق لهم. هذه الحالة يستغلها البعض ويوجهها في استراتيجياته، وحين يتحقق له مبتغاه، يلفظ الشباب ويتنكر لهم ولهمومهم والأمثلة صارخة أمامنا في تونس ومصر واليمن.