لم يكن نيكولا سركوزي بحاجة سوى إلى منافس – ليس ندياً ولا قوياً بالضرورة – وإنما يستطيع أن يوظف الأخطاء القاتلة التي ارتكبها سركوزي في السلطة على مدى خمس سنوات من ولايته الرئاسية، لاسيما منها ما اتصل بعنجهيته وخيلائه اللذين صورا له أنه الرئيس الوحيد المؤهل للانقلاب على الإرث التاريخي للديمقراطية الاجتماعية الفرنسية وخصائصها وثوابتها، لكي يطيح بسهولة بهذا السياسي المغامر الذي لم يتوانَ حين أُسندت له حقيبة الداخلية في وقت سابق، عن توريط المجتمع الفرنسي في حرب قذرة ضد أحزمة البؤس التي يتكدس فيها المهاجرون في ضواحي باريس والمدن الفرنسية الأخرى والذين يشكلون جيش احتياطي لقوة العمل الفرنسية الذي يسهل بصورة أساسية في تدعيم التنافسية السلعية والخدمية الفرنسية.
فكان هذا المنافس هو فرانسوا هولاند مرشح الحزب الاشتراكي الفرنسي، الرجل الفرنسي العادي الذي يتوجه كل يوم إلى عمله مستخدماً دراجته النارية الصغيرة والذي قال لناخبيه انه سيستبدلها بعد أن يصبح رئيساً بركون القطار والذهاب كالمعتاد مع أسرته للتسوق. وقبل عام لم يكن هولاند معروفاً كسياسي مرموق وإن كانت قرينته السيدة سيجولين رويال المرشحة الاشتراكية في انتخابات الرئاسة الفرنسية السابقة التي خسرت أمام سركوزي نفسه، قبل أن ينفصلا بعد زيجة استمرت حوالي ربع قرن أنجبا خلاله أربعة أبناء. كما انه لا يعرف سوى عدد يسير جداً من قادة العالم. إنما هذا الرجل الذي لا يبدو سحر الكاريزما على محياه، قد أظهر خواصاً شخصية قيادية لافتة ومبهرة خلال المناظرة التلفزيونية الوحيدة التي جمعته مع الرئيس المنتهية ولايته نيكولا سركوزي خصوصاً حين انبرى بنجاح لإحباط محاولة سركوزي اللعب بورقة المهاجرين والأمن والإسلام والهوية الفرنسية لاستمالة اليمين الفاشي الذي تتزعمه مارين لوبين التي ورثت كرسي رئاسة حزب الفاشية الفرنسية الجديدة عن أبيها الكهل جان ماري لوبين، وحيث أثبت سركوزي بذلك انه شخص خطير مستعد للذهاب إلى أقصى درجات التطرف اليميني أي الفاشية في سبيل البقاء على كرسي الإليزيه.
لقد وصل سركوزي إلى الحكم بوعده الفرنسيين بنقلهم إلى حال الرخاء الاقتصادي فإذا بهم يجدون أنفسهم في حال الشقاء الاقتصادي والاجتماعي. ولذلك فمثلما رفعه الفرنسيون إلى الإليزيه فإنهم خلعوه منه. اليوم وصل هولاند إلى الحكم أيضاً بوعد إخراج الفرنسيين وتخليصهم من دوامة سياسات التقشف الزاحف على مكتسباتهم وحتى على أساسيات معيشتهم.
تصويت الفرنسيين لصالح هولاند هو تصويت ضد السياسات النيوليبرالية التي تقف اليوم وراء الأزمات السياسية والاحتجاجات الشعبية في عدد من الدول الأوروبية الرئيسية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي .. هو تصويت لإحباط سياسات التقشف التي تطبقها أحزاب اليمين الحاكمة بطريقة غير عادلة في توزيع أعباء الأزمة المالية .. هو تصويت للتغيير وإن كان من أجل إعادة الأمور إلى نصابها بعد أن كان سركوزي قد حرفها عن مسارها باسم التغيير (Change)، وما هو بتغيير تقدمي (Progressive) كما كان وعد به ناخبيه بقدر ما كان ارتداداً (Regression) بالمفهوم العلمي الاقتصادي للتنمية وبالمحصلة التي انتهى إليها، على النحو الذي فعله يساريو مؤسسة “أميريكان انتربرايز انستيتوت” وقد تحولوا يميناً راديكالياً، حيث طبعوا أداء إدارة بوش الابن بطابع نظراتهم السوسيواقتصادية النيوليبرالية المتطرفة، فجاء أوباما بشعار “التغيير” قاصداً إعادة التوازن الاجتماعي المختل إلى سابق عهده.
السؤال الآن: هل يستطيع فرانسوا هولاند أن يثبت نفسه بديلاً ناجحاً لسركوزي في ظل استمرار قوة وطغيان المذهب التنموي النيوليبرالي في أوروبا؟
نميل إلى الاعتقاد بضعف حظوظ هولاند في التعامل بنجاح مع مذهب اقتصادي سياسي هو المذهب النيوليبرالي في نسخته اليمينية المتطرفة، والذي استقبل هولاند حتى من قبل إجراء اقتراع الجولة الثانية من الانتخابات الفرنسية، بالهجوم اللاذع (راجع الإعلام الأمريكي والبريطاني بما في ذلك مجلة الايكونومست اليمينية الرصينة عشية تلك الجولة) وتحذير أوروبا من عواقب سياساته “التمردية” … ما لم تحصل تبدلات مماثلة في عدد من بلدان أوروبا لاسيما ألمانيا التي تتزعم التوجهات المتشددة للسياسات المالية في الاتحاد الأوروبي.
ولذلك على هولاند أن يحذر من الوقوع في نفس المطب الذي وقع فيه الرئيس أوباما وهو يحاول فرض أجندته في التغيير فوجد نفسه محاصراً بمكامن ضواري المحافظين الجدد (الذين هم أنفسهم النيوليبرال). فعليه أن يتعلم من دروس تجربة أوباما بهذا الصدد خصوصاً في تعاطيه مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.