تتويجا للنجاحات الباهرة التي حققتها تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان، على الأصعدة الاقتصادية والعلاقات الدولية (منذ عام 2002 حتى اليوم)، فقد أسالت كثيرا من الحبر وحفزت الكثير من المتخصصين في علم الاقتصاد وعلم العلاقات الدولية للاجتهاد في دراسة وتقييم تلك التجربة التركية التنموية اللافتة ومستقبلها..وعما اذا كانت تمثل نموذجا تنمويا يمكن تمييزه على غرار ما هو حادث بالنسبة لبعض بلدان جنوب شرق آسيا (مثل تايوان وسنغافورة وهونج كونج وكوريا الجنوبية)، وبعض بلدان امريكا اللاتينية (مثل البرازيل).
التعريف العلمي للنموذج، على اختلاف التنظيرات، يجمع على انه نجاح الدولة في تعلية معدلات التوفير (Savings) التي تقرر بدورها حجم التراكم الرأسمالي (Capital accumulation)، وتدفق الابتكارات التي تلعب الدور الحاكم في تعلية معدل نمو الانتاجية (Productivity Growth Rate) ومعدل النمو السكاني، وحصة الأجور والأرباح من اجمالي الناتج الوطني. ولسوف تجد هذه المقومات متوفرة في التجارب التنموية لعدد من بلدان جنوب شرق آسيا وتحديدا تايوان وهونج كونج وكوريا الجنوبية وسنغافورة التي أدركت حكوماتها محدودية قدرة أسواقها الوطنية على تخصيص الموارد الشحيحة أصلا في اقتصاداتها فتصدت هي بنفسها لأعمال التنمية الاقتصادية، فكانت ولادة ما يسمى بنموذج الدولة التنموية. وقد بدأت تايوان نموذجها التنموي، الصناعي تحديدا، في جنوب شرق آسيا بعد هونج كونج وقبل كوريا الجنوبية، مستفيدة من ارتفاع الاجور في اليابان ومن بعد هونج كونج ومن تحديد حصص تصدير المنسوجات والملابس الجاهزة من الدولتين الى أمريكا وأوروبا. وخلال نصف القرن الماضي رفعت تايوان اجمالي ناتجها المحلي من 6 مليار دولار الى 300 مليار وحصة الفرد من 700 دولار الى 13 ألف دولار، وبمعدل نمو يتـراوح بيـن 6-8%، واعتمدت الاصلاح الزراعي، وتطوير التخطيط العائلي، وربط العدالة بالنمو من خلال خلق شواغر وظيفية خارج القطاع الزراعي ونشر التعليم والتوزيع العادل للثروة والأراضي الزراعية، والاعتماد على المبادرة الخاصة عوضا عن الاعتماد على القطاع الحكومي، والتصنيع الموجه للتصدير، وتحفيز التوفير والبحث والتطوير (R&D). ولعل أكثر ما يميز هذه النماذج بصورة مشتركة هي: الاستدامة، وخفض معدل النمو السكاني كشرط لجعل النمو مستداما.
ومنعا للاسترسال غير الضرورى، وبقليل من التدقيق يمكننا القول ان النموذج التنموي الذي أشاده حزب العدالة والتنمية في تركيا ما هو في التحليل الأخير سوى النسخة الشرق أوسطية لنماذج الدولة التنموية التسلطية في جنوب شرق آسيا، وتحديدا نماذج هونج كونج وتايوان وكوريا الجنوبية قبل تحولها للديمقراطية التمثيلية. فلقد اعتمدت التجارب التنموية في هذه البلدان على مقايضة الديمقراطية التمثيلية بالرفاه الاجتماعي الذي كانت الدولة المركزية، الشمولية ان شئتم، عماد تأمينه وازدهاره.
ميزة أخرى تميز النموذج التنموي (السياسي والاقتصادي والاداري الكلي) التركي لحزب العدالة والتنمية، هذا ان كان يصح بهذه المقومات العمومية تمييزه كنموذج ذي علامات فارقة، وهي استغراقه المفرط لحد الاستمراء في العمل بالمذهب البراغماتي حتى صار قادة الحزب والدولة التركية يتفوقون أحيانا على البراغماتية الامريكية التي هي بالأساس البلد الذي صدَّر هذه الفلسفة ذات المحتوى النفعي الغير بعيد عن مذهب صاحب كتاب “الأمير” الشهير نيكولو ميكافيلي وقاعدته “الذهبية” التي دبجها في متن رسالته الى “بيير سوديريني وفحواها ذلكم التبرير الذي ساقه ميكافيلي لاقدام الأمير على أي عمل لتحقيق ما أسماه “هدف تقوية الدولة والحفاظ عليها حتى ولو كان مخالفا للقوانين والأخلاق”، حيث سطّر مقولته الشهيرة في هذا الاتجاه والقائلة بأنه “في الأمور ينبغي النظر للغاية وليس للوسيلة”.
وهنا لعلنا نتذكر كيف كان رئيس الحزب الحاكم في تركيا ورئيس وزرائها اللامع رجب طيب أردوغان في السنوات الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، يدير علاقات تركيا مع اسرائيل بشكل جيد ومع الغرب الأوروبي بشكل أفضل، وكيف لبى معظم مطالب الأوروربيين من أجل أن يقبلوا بلاده عضوا في الاتحاد الأوروبي، وهو الانجاز الذي كان سيدخل به التاريخ التركي الحديث من أوسع أبوابه بما يقربه من “اسطورية” شخصية أتاتورك في عيون الأتراك. لكن اللوبي اليهودي الصهيوني والأرمني في أوروبا والولايات المتحدة حرماه من هذا الفخر، فكان أن أعادته براغماتيته الى المربع الأول ولكن بأدوات ادارة للسياسة الخارجية التركية جديدة.
فلا فرادة، بهذا المعنى، في النموذج التنموي التركي اللهم الا اذا وُضع قبالة نظرائه من النماذج التنموية العربية التي أفرزت نفسها كأمثلة نموذجية على الفصل بين النمو والتنمية. فاذا ما تفحص المرء قليلا في النموذج التنموي التركي وتعمق في بعض حيثياته على أصعدة الادارة الاقتصادية الكلية في اتصالها خصوصا بالعدالة الاجتماعية (التي تعمل على تحقيقها المؤسسات المتفرعة عن هيكل البناء الديمقراطي للدولة المعاصرة وليس الصناديق الخيرية)، وصيانة الحقوق المدنية الأساسية للسكان، والعلاقات الدولية التي نسجتها الدولة التركية في عهد حزب العدالة والتنمية تدعيما لطاقاتها الداخلية، فانه سيكون أمام نسخة متجددة من دولة الشرق “المتعملقة” والمتوغلة في معظم مناحي الحياة التركية، لاسيما الحياة الاقتصادية، حيث لازالت الدولة، تحت تأثيرات وأعباء الموروث التاريخي العثماني على الأرجح، تهيمن على عصب الاقتصاد التركي متمثلا في قطاع الصناعة وقطاع النقل والمواصلات والقطاع المالي وقطاع الاتصالات، وذلك رغم حزمة الاصلاحات التي طاولت جوانب عديدة واستهدفت تعظيم وزن القطاعات الخاصة في الحياة التركية. ومع ذلك فان هذا لا يقلل بأي حال من قوة الدفع الداخلية التي يتمتع بها النموذج التركي في التنمية الشاملة والآفاق الرحبة التي يحوزها.