من يعود للدراسات الاستشرافية التي قامت بها جهات بحث عربية رصينة عن مستقبل العالم العربي سيُدرك أن عدد العقول العربية التي حذرت من مغبة التطورات التي نعيشها اليوم ليس قليلاً. بل ربما نندهش لو وجدنا أن ما جرى توقعه لا في خطوطه العريضة فقط، وإنما أيضاً في الكثير من التفاصيل يحدث اليوم على الأرض وربما بالحذافير، ومن أراد أن يتحقق من هذا القول فعليه بالعودة الى إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية، وبالأخص الى تلك التي اشتغلت عليها فرق بحث من مختلف البلدان العربية، في المغرب والمشرق، لاستشراف ما كان يُوصف بالمستقبل العربي.
الذي كان مستقبلاً لحظة وضع تلك الدراسات لم يعد كذلك، فها هو بات حاضراً نعيشه جميعاً، ويعيشه معنا، على الأخص، ملايين من الشباب العرب الذين كانوا أطفالاً أو الذين لم يُولدوا حين بحث هؤلاء المستشرفون السيناريوهات المتوقعة لتطور الأوضاع في بلداننا.
وهذه السيناريوهات جميعها انطلقت من الشعور بأن جذور الأزمة راسخة في بنية النظام الرسمي العربي، حين حذرته إن لم يتصدَ لمعالجتها، فإن الأمور سائرة نحو انفجارات اجتماعية كبرى، ونحو تفكك كيانات، ونحو أشكال من النزاعات المذهبية والطائفية وسواها، وستفتح مثل هذه الانفجارات أخطر الاحتمالات المتوقعة، وحتى غير المتوقعة، من تدخل إرادات خارجية، دولية وإقليمية، إما لأنها ترغب في تكييف التغييرات واحتوائها بما يخدم مصالحها، أو تبحث عن أدوار وأوراق ضغط ومساومة، على نحو ما نشاهده حالياً.
ها نحن اليوم شهود على الانفجارات الاجتماعية الكبرى التي لم يُقررها حزب أو جماعة أو حتى مجموعة أحزاب أو قوى، وإنما جرت، على الأقل في الكثير من حالاتها، بالإرادة العفوية للناس، وللشباب في المقدمة، الذين ظنوا أنهم سيمسكون مصيرهم بأنفسهم من دون وصاية عليهم من أحد، لكن التجربة كشفت أن هؤلاء الشبان لم يكونوا يعرفون بالضبط ما الذي يتوجب عليهم فعله بعد الخطوة أو الخطوات الأولى، ولكنهم، رغم ذلك، كانوا مُصرّين على أن يُقدموا على هذه الخطوة، فمن دونها لن يستقيم أي سؤال عن ماهية الخطوة التالية، ومن دونها، أيضاً، ستظل الأوضاع على ما هي عليه، ربما عشر سنوات أو عشرين أخرى، وربما أكثر.
للتغيير قوانينه وميقاته، وفي حال غياب أو ضعف القوى القادرة على توجيه هذا التغيير في الوجهة الآمنة، فانه قد يندفع نحو مصائر تزيد الأمور تعقيداً، حين تؤول الأمور على أيادي قوى وجماعات لا تحمل برنامجاً للمستقبل، تصادر هبات الشباب وتضحياتهم، وتعيد إنتاج الوضع المأزوم في صيغ جديدة. المستقبل الذي تنبأ به الدارسون والمحللون، جاء، فبات حاضراً، حاملاً في أحشائه كل تعقيدات الماضي، دون أن يفرز، حتى اللحظة على الأقل، القوى التي تحمل برنامجاً واضحاً قادراً على تجاوز هذا الماضي.
|