المنشور

أسئلة الموت والخلود


لماذا كان «كافكا» – الكاتب التشيكي الذي رحل باكرا في مطالع عشرينات القرن العشرين قد طالب بإتلاف كتبه قبل رحيله؟ دهشة كثيرة أحيط بها هذا الأمر، لكن مواطنه ميلان كونديرا كتب بعد عقود عديدة معبرا عن دهشته هو الآخر من هذه الدهشة إزاء طلب كافكا. برأيه انها دهشة مفتعلة. لماذا لا يكون لدى المؤلف، اي مؤلف، اسباب كافية ليصحب نتاجه معه في رحلته الأخيرة؟
 
هذا هو جوهر السؤال الذي يثيره كونديرا في «الوصايا المغدورة»، وهو يناقش هذا الأمر. برأيه ان الكاتب قد يكتشف في لحظة الموازنة الختامية انه يكره كتبه، وأنه لا يريد ان يخلف وراءه هذا الاثر المحزن عن اخفاقه. او ان هناك تفسيراً آخر: يحب المؤلف دوماً نتاجه لكنه لا يحب العالم، لا يستطيع ان يتحمل فكرة تركه هنا تحت رحمة المستقبل الذي يجده مقيتاً، او انه يحب دوماً نتاجه لكنه لا يهتم حتى بمستقبل العالم. أو ان تكون لدى الكاتب مشكلة مع الجمهور الذي لم يفهمه، وعانى من ذلك خلال حياته، ولم يشأ ان يتألم منه بعد مماته.
 
لكن اياً من هذه الاسباب لا ينطبق على كافكا الذي كان يعي قيمة ما كتب، ولم يكن لديه كره معلن تجاه العالم، رغم السوداوية التي تظهرها كتاباته، ولأنه صغير السن وغير معروف كفاية، فلم تكن لديه تجارب سيئة مع الجمهور.
 
حين مات كافكا وجد أعز أصدقائه: «برود» رسالتين شخصيتين وصفتا فيما بعد بـ“وصية كافكا”. رغم أنهما لا تنطويان على أية قيمة قانونية تكسبهما طابع الوصية، بل إنهما ليستا رسائل بالمعنى المعروف للكلمة، لأنهما لم ترسلا بالبريد أبداً، كما كان كافكا قد فكر في البداية قبل أن يصرف النظر عن هذه الفكرة فيما يبدو. فقد وجد «برود» رسالتين في درج مع كومة أوراق، إحداهما مكتوبة بالحبر، ومطوية مع عنوان «برود» نفسه، والأخرى مفصلة أكثر ومكتوبة بقلم رصاص.
 
فيما بعد ذكر الصديق أن كافكا قال له، وهو يظهر الورقة المكتوبة بالحبر التي وجدها فيما بعد في مكتبه: «وصيتي الشخصية في غاية البساطة: أرجوك أن تحرق كل شيء»، وكيف انه رد عليه: «أخبرك سلفاً بأني لن أفعل ذلك». كان كافكا يعرف مقدار حماس صديقه لكل كلمة من كلماته، لذلك كان يعلم علم اليقين أنه لن يطيعه، وأن عليه أن يختار منفذاً آخر لوصيته إذا كانت طلباته هذه جادة تماماً وغير مشروطة.
 
ما الذي يجعل كاتباً يوصي بإتلاف كتبه بعد موته. ما الذي يخشاه بالضبط؟! هل كان «كافكا» مهدداً بالخلود، هل كان يخشى الخلود، هل كان يرغب في أن تظل تجربته تجربة خاصة به، قصيرة الأجل مثل عمره القصير، تنتهي بموته ويسدل عليها النسيان، بأن يأخذ معه كل ما خلفه إلى الفناء. هل يخشى أن تقرأ الأجيال التالية ما كتب، لذا يريد أن يمحو أي أثر من آثار حياته. إنها أسئلة ترتقي إلى مقام الفلسفة.
 
13 مايو 2012