بالتأكيد فإنّ التطور الديمقراطي في الكويت يقتضي الانتقال من الطريق الوسط بين النظامين البرلماني والرئاسي في إطار “دستور الحدّ الأدنى” إلى صيغة النظام البرلماني، وما يترتب على مثل هذا الانتقال من تنقيح للدستور في هذا الاتجاه بما يتوافق مع ديمقراطية الحكم وكون الأمة مصدر السلطات جميعا… وبالطبع فإنّ الأمر يعتمد أولا وأخيرا على توافر ميزان قوى مواتٍ والتوصل إلى توافق بين إرادتي الأمير وممثلي الأمة حول ذلك.
وكان يفترض بدءا من العام 1968 أن يتمّ تنقيح الدستور نحو مزيد من الضمانات الديمقراطية وذلك بعدما تكون قد انقضت فترة الحظر الزمني على تنقيح الدستور الممتدة طوال السنوات الخمس الأولى للعمل به، وهو الأمر الذي كانت السلطة تدرك خطورته مبكرا لذلك فقد عمدت إلى استباق استحقاق تطوير الدستور بتزوير انتخابات مجلس الأمة الثاني التي أجريت في 25 يناير 1967… ثم عمدت السلطة في العام 1980 خلال فترة انقلابها الأول على الدستور إلى محاولة تمرير مشروعها غير الديمقراطي لتنقيح الدستور على نحو يسلب حقوق الأمة ويعزز في المقابل السطوة السلطوية حينما شكّلت حينذاك لجنة النظر في تنقيح الدستور، والمفارقة أنّ تلك اللجنة على الرغم من كونها لجنة معيّنة وليست منتخبة على أساس دستوري إلا أنها رفضت مشروع السلطة لتنقيح الدستور… وكررت السلطة محاولتها في العام 1981 بعد عودة الحياة النيابية في العام 1981 فعرضت مشروعها غير الديمقراطي ذاته لتنقيح الدستور على مجلس الأمة في فصله التشريعي الخامس، وقد جوبه بحملة من الرفض الشعبي وذلك على الرغم من وجود غالبية نيابية، ما اضطر السلطة إلى استرداد مشروعها التنقيحي سيئ الذكر… ومنذ ذلك الحين تشكّل في الضمير الشعبي موقف دفاعي يرفض المساس بدستور 1962، على الرغم من كونه دستورا للحدّ الأدنى، وأصبح معظم الكويتيين يتحسسون سلبا تجاه أي حديث عن تنقيح الدستور وفق قاعدة “قرصة الحية والحبل”، وإن كانت هناك حالة خاصة للاقتراحات الفاشلة التي كرر نواب الأحزاب الدينية بدعم من نواب النفاق الديني الاجتماعي تقديمها أكثر من مرة لتنقيح المادة الثانية بهدف اعتماد الشريعة الإسلامية مصدرا وحيدا للتشريع، حيث كان معظم تلك الاقتراحات تسجيل مواقف ورفع عتب لمعرفة مقدميها مسبقا أنها سترفض!
وخلال السنوات الأخيرة طرح بعض النواب اقتراحات تتفاوت في دوافعها وتتباين في أغراضها لتنقيح بعض مواد الدستور، وقد جوبهت جميعها بالمعارضة الشعبية إما للخشية من استغلال السلطة لهذه الاقتراحات لمعاودة طرح مشروعها لتنقيح الدستور؛ أو بسبب ما تنطوي عليه بعض تلك الاقتراحات من مضامين غير ديمقراطية مثل المقترح الذي سبق أن دعا إليه النائب علي الراشد.
وبدءا من العام 2011 حدث تبدّل ملموس في ميزان القوى؛ وبالتالي في إمكانية طرح استحقاق الإصلاح الدستوري الديمقراطي بعيدا عن المخاوف السابقة، حيث تمثّل هذا التبدّل في اتساع الحراك الشعبي الداخلي ضد الفساد ومن أجل الإصلاح السياسي كما تمثّل في التغيير الثوري العاصف الذي شهدته المنطقة العربية، بحيث لم تعد السلطة قادرة على التلويح بتصفية المكتسبات الديمقراطية مثلما كانت الحال سابقا، ولذلك كان من الطبيعي أن يتم الانتقال من الموقف الدفاعي السلبي عن دستور 1962 إلى ما يشبه الموقف الهجومي بالتداول حول ضرورة الإصلاح الدستوري الديمقراطي المستحق بالانتقال إلى النظام البرلماني… وبدا الاستحقاق للوهلة الأولى بعد الانتخابات الأخيرة وفوز الغالبية النيابية الحالية قريب المنال… ولكن الأمور لم تجر على النحو المناسب، إذ تراخى نواب الغالبية في طرح اقتراحاتهم للإصلاح الدستوري الديمقراطي المستحق والموعود؛ إلى أن تقدّم بها منفردا قبل أيام النائب الشاب فيصل اليحيى؛ فيما تسابق معظم نواب الغالبية خلال الفترة الماضية على تلبية نواب التزمت في التوقيع على طلبهم المريب للعبث بالدستور بتنقيح المادة التاسعة والسبعين في شأن توافق القوانين مع أحكام الشريعة الإسلامية، الذي لم يكن مطلبا مطروحا خلال الحراك الشعبي، بل كان واضحا أنّه سيؤدي إلى خلط الأوراق وسيخدم هدف السلطة في تعطيل الإصلاح الدستوري الديمقراطي المستحق؛ ناهيك عن المخاوف المشروعة من تحويل الكويت إلى دولة دينية التي تشكّلت لدى قطاع ليس بقليل من الشعب، ومن الطبيعي أن تقوده هذه المخاوف إلى شيء من الربط السلبي بين تمرير هذا الاقتراح العابث بالدستور واقتراحات الإصلاح الدستوري الديمقراطي، أما السلطة فمن التأكيد أنّها ستستغل هذه الأوراق المختلطة والتناقضات بما يخدم مصالحها، وهذا ما يهدد عمليا بضياع الفرصة التاريخية السانحة لأول مرة لبدء عملية الانتقال إلى النظام البرلماني!
عالم اليوم 1 مايو 2012