لئن كان رحيل الرئاسة السابقة للحكومة قد خفّف من حدّة احتقان الأزمة السياسية التي كانت محتدمة في البلاد طوال العامين 2010 و2011 فإنّه من الخطأ افتراض أنّ صفحة تلك الأزمة، في مضمونها العام وليس شخص رئيس الحكومة، قد طويت نهائيا إلى غير رجعة…
فنهج السلطة لم يختلف من حيث الجوهر عما كان عليه، وإنما اقتصر التغيير فقط على بعض أساليب التعاطي الحكومي مع المجلس مثل صعود رئيس الحكومة المنصة علنا في جلسة استجوابه؛ أو التراجع عن بعض القرارات والتوجّهات استجابة للضغوط النيابية، فيما نجد في المقابل أنّ الحكومة الحالية قد تشكّلت بمعزل تماما عن نتائج الانتخابات؛ كما تمّ رفض الاستجابة لعرض ما يسمى “كتلة الغالبية” المشاركة بعدد مؤثر من الوزراء في التشكيلة الحكومية، بل لقد جرى توزير بعض مَنْ هم محل اعتراض نيابي، وغير ذلك لم يعد خافيا على أحد عدم جدّيّة الحكومة في التعاون مع لجنتي التحقيق البرلمانيتين في فضيحتي الإيداعات والتحويلات، ما يعني عمليا استمرار نهج توفير الحماية السلطوية لقوى الفساد والتستر عليها؛ ما لم تكن رعايتها والتواطؤ معها!
وكذلك الأمر مع نتائج الانتخابات النيابية المبكرة التي وإن كانت قد أحدثت تغييرا في تركيبة مجلس الأمة وميزان القوى التصويتي داخله، إلا أنّه من الواضح أنّ ما يسمى “كتلة الغالبية” التي أفرزتها الانتخابات لا تشكّل كتلة نيابية متجانسة، مع ما يلاحظ من انقيادها للطرف الديني المتزمت في صفوفها وذلك على حساب ما كان يفترض أن تباشر هذه “الغالبية” في إنجازه أو تقديمه من اقتراحات دستورية أو تشريعية تتصل بشعارات الإصلاح السياسي الديمقراطي التي كانت مرفوعة خلال الحراك السياسي، فبدلا من اقتراح تنقيح مواد الدستور ذات الصلة بهذا الإصلاح المستحق قدّم نواب “الغالبية” طلبهم اقتراح تنقيح المادة التاسعة والسبعين من الدستور باشتراط توافق التشريعات التي يقرّها مجلس الأمة مع الشريعة؛ بما ينتقص من الطابع المدني للدولة ويمثّل خطوة في اتجاه فرض مشروع الدولة الدينية، ناهيك عن النيّة المعلنة لتقديم اقتراح آخر بتنقيح المادة الثانية من الدستور عندما تحين الفرصة الممكنة لذلك، والإعلان عن تقديم اقتراحات بقوانين من شأنها المساس بالحرية الشخصية والتدخّل في الحياة الخاصة للأفراد من شاكلة ما يسمى “قانون الحشمة” والتهديد بفرض ارتداء النساء الحجاب بقوة القانون؛ والتسرّع الاستعراضي في تعديل قانون الجزاء لتغليظ العقوبات، وذلك بدلا من إنجاز ما كان قد جرى التعهد به خلال الحراك الشعبي والحملات الانتخابية من تشريعات مطلوبة لمكافحة الفساد واستقلال القضاء، وهذا ما ترك أثره السلبي لدى الرأي العام الشعبي… والأسوأ من ذلك إطلاق نواب “الغالبية” و”الأقلية” كل من جانبه سلسلة من التصريحات غير المسؤولة التي تستهدف تأجيج النعرات الطائفية، والتباري في تقديم استجوابات ابتزازية غير مستحقة يفوح منها نَفَس طائفي بغيض!
وإذا أضفنا إلى ما سبق عزم السلطة على إعادة ترتيب الوضع المختل لغير صالحها إلى ما كان عليه قبل الانتخابات عندما كانت تمسك بخيوط اللعبة جميعا، وخشيتها من عواقب انكشاف حقائق فضيحة التحويلات الخارجية، وما تقوم به بعض مراكز النفوذ السابقة من تحريض استفزازي متواصل ضد مجلس الأمة الحالي ومحاولتها الدفع في اتجاه التعجيل بحلّه، فلن يكون من المستبعد أن يتداعى الوضع القائم وتعود البلاد مجددا إلى المربع الأول الذي كانت فيه، وذلك بعدما يكون الحراك الشعبي قد فَقَدَ زخمه السابق وبعد أن يتبدّل المزاج الانتخابي الذي افرز المجلس الحالي!
عالم اليوم 24 ابريل 2012 ,