كما السياسة في تعرجاتها وعدم مستقرها، كذلك هو مسار الحوادث التاريخية في تقلباتها وصعودها وهبوطها. ومع ذلك، وباختلاف الظروف والمعطيات ونوعية التحديات، فان بعض صور الحوادث التاريخية الواقعة في أزمان وأماكن مختلفة تحمل على قسماتها، وتطاول أحيانا مضامينها، بعض الشبه الذي ربما كان مبعث ذلكم الاعتقاد السائد والقائل بأن التاريخ يعيد نفسه.
نقول هذا الكلام وفي ظننا ان الصعود المفاجىء والدرامي لحركات الاسلام السياسي في غير بلد عربي يشبه الى حد ما صعود الحركات والتنظيمات الراديكالية الى السلطة في العديد من الأمصار في العصر الحديث. حيث جاءت تلك الحركات الى السلطة وهي محملة بأحلام وطروحات مغرقة في مثاليتها لحد اليوتوبيا الافلاطونية، فحاولت بشتى السبل اقناع المجتمعات التي ساستها بنقاء سريرتها وبفضيلة وفضائل مبادئها وعدالة خياراتها التعميرية، قبل ان يتحول الاقناع الى فرض والتوجيه والارشاد الى استبداد زعامي، سواءً أكان فرديا أو نخبويا حزبيا. فكان أن انتهى بها المآل الى الاخفاق تلو الاخفاق قبل أن تتنبه الى مثالياتها وغلوها الايدولوجي المنعكس سلبا، بالضرورة، على الأداء الاداري السياسي الكلي، ولكن بعد أن كان الأوان قد فات وأصبح التغيير، وليس الترقيع، حتميا.
فمن مصر الى تونس اندفع الاسلاميون وتحديدا الاخوان المسلمون في محاولات لحوحة لاستكمال اطباقهم على السلطة وتطبيق رؤاهم الاحادية بسرعة اثارت الرأي العام ووضعتهم في مواجهة مباشرة مع قطاعات واسعة من النخب والشارع. ففي مصر أطبقو بصورة شبه كاملة على اللجنة التأسيسية المختصة بصياغة ووضع دستور مصري جديد، أي الوثيقة التي ستعيد رسم خريطة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المصرية على الاقل للأعوام العشرين المقبلة (قبل ان يصار الى تعديل أو تغيير الدستور).
وفي تونس سارع حزب النهضة (اخوان) الذي بات يسيطر على البرلمان ويقود الحكومة التونسية، هو الآخر، لاثارة الجدل مبكرا حول الدين والدولة في محاولة لقلب الاساس الذي شكل هوية الدولة التونسية الحديثة وكرَّسها الفصل الأول من الدستور التونسي لعام 1959. كما أدت نزعة الهيمنة المبكرة التي أظهرها حزب النهضة الى التصادم المباشر مع قطاعات واسعة من الشعب التونسي التي أسهمت في اطلاق الشرارة الأولى للثورة وانجاحها (في مؤتمر صحفي عقده مساء الثلاثاء 17 نيسان/أبريل 2012 اتهم الأمين العام للحزب الاشتراكي اليساري التونسي محمد الكيلاني حركة “النهضة” الاسلامية “بتحويل تونس الى دولة فاشية، وان التوجه الذي اتخذته حركة النهضة بصورة تدريجية يتمثل في تكثيف عملية العنف تجاه المجتمع، وانها تقوم، منذ وصولها الى سدة الحكم بطريقة شرعية، بعملية الاستيلاء على السلطة وفرض ارادتها على المجتمع بواسطة مممارسة عنف الدولة”).
وهنا كان بروز أول امتحان للاسلاميين في الحكم..الاختيار بين اليوتوبيا الايديولوجية وبين التعامل بواقعية شديدة مع قضايا العصر العربي الراهن، الكليات منها والفرعيات، وفي مقدمة كلياتها الامتناع عن انشاء آليات لتأميم الحكم والاستئثار به واعادة الاعتبار للمؤسسة بتفكيل قواعد حكم الفرد المطلق، وفي فرعياتها اعلاء قيمة الانسان وكرامته وحقوقه وعدم التعدي على حقوق وخصوصيات المكونات المجتمعية، الاثنية والدينية والثقافية المختلفة، وقبل هذا وذاك احترام مصالح وطموحات وتوجهات الشباب الذين باتوا يشكلون النسبة العظمى للبلدان التي سيطر فيها الاسلاميون على السلطة والذين يعود لهم الفضل الأكبر ليس فقط في اطلاق موجات الاحتجاجات والثورات، بل وفي وصول الاسلاميين، ترتيبا، الى السلطة.
وبهذا المعنى لعلنا نحسب ان حركة النهضة الاسلامية التونسية التي تقود الحكومة التونسية منذ فوزها الكاسح في أول انتخابات تُجرى في تونس بعد اطاحة الرئيس زين العابدين بن علي، ربما ادركت بحسها البراغماتي هذه الحقيقة، حيث تراجعت عن سعيها لتغيير الدستور بما يتوافق وتوجهها لتحويل تونس الى دولة دينية، وأعلنت على لسان عضو مكتبها التنفيذي نجيب الغربي ان حركة النهضة “قررت الاحتفاظ بالفصل الأول من دستور 1959 باعتباره محل اجماع المحتمع التونسي الذي ينص على ان “تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الاسلام دينها والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”. جاء ذلك القرار – بحسب الغربي – في اعقاب “نقاشات معمقة ومطولة خلال اجتماع الهيئة التأسيسية لحركة النهضة الذي تواصل يومي 24 و25 آذار/مارس الماضي برئاسة الشيخ راشد الغنوشي رئيس الحركة وفتحي العيادي رئيس الهيئة التأسيسية للحركة”.
وبهذا القرار الحصيف تكون حركة النهضة التونسية قد غلَّبت الواقعية السياسية على اليوتوبيا الايديولوجية وأبعدت تونس عن مخاطر وأهوال عمليات الاستقطاب السياسي الحادة التي كانت ستدخلها لو تغلب بريق واغراءات السلطة ومثالية النظرات الايديولوجية الراديكالية “الكاسحة” على الواقعية السياسية.
في مصر جرت الأمور بصورة مغايرة، فلم يشأ اخوان مصر السير على خطى “اخوانهم” في تونس، وانما اختاروا الاستئثار بقرار صياغة الدستور المصري الجديد بالاستحواذ التام على الجمعية التأسيسية المشكلة لصياغة الدستور، ما دفع كافة ممثلي الكتل والتيارات السياسية الليبرالية للانسحاب من الجمعية.
ماذا يعني هذا؟..هل يعني ان اخوان مصر أقل براغماتية وأكثر راديكالية وطوباوية من اخوان تونس؟..هذا هو الأرجح، فالايديولوجية الواحدة لا تعد سببا كافيا للتماثل السياسي، ومن الواضح ان الفرد بخواصه التكوينية – الثقافية قبل الايديولوجية – وقوة تأثير شخصيته القيادية، له دور فاصل ومقرر في التحاجج والقول الفصل، خصوصا في القضايا الرئيسية الحاسمة. ففي تونس هناك شخصية راشد الغنوشي المفكر الاسلامي المتواصل، خصوصا من منفاه الانجليزي، مع عديد التيارات الفكرية والسياسية، تقابله في مصر شخصية خيرت الشاطر الذي “قدمته” قيادة الاخوان المسلمين المصرية للرأي العام المصري كمرشح رئاسي انقاذي، مُخفية في ذات الوقت حقيقة شخصيته الغامضة التي جهد الاعلام المصري للملمة بعثرات وشتات صورتها قبل الخروج باستنتاج مفاده ان الشاطر هو في التحليل الاخير نسخة أخرى من شخصية أحمد عزالدين عز أمين التنظيم وعضو لجنة السياسات في الحزب الوطني المنحل الذي كان يرأسه الرئيس المخلوع حسني مبارك. أما وجه المقارنة بين الرجلين فيتمثل في ثرائهما الفاحش ونفوذ كل منهما الطاغي داخل “جماعته” الحزبية. وقد تكون هذه المقارنة، بعشوائيتها، متعسفة وظالمة لخيرت الشاطر، من حيث انه لم يختبر على الصعيد المجتمعي الكلي، انما تهافت وهرولة الاخوان على مواقع السلطة في مصر يكشف عن ثقافة مختلفة غير مريحة قياسا بخطوة اخوان تونس المتمهلة والحاذفة على ما نزعم.
ولعل المرء المتابع يخلص مما تقدم الى ما يلي:
· هنالك تحالفات واسعة لنشر اليأس، تبدأ من الوسائط الاعلامية التي تعمل ليل نهار على تنفير الناس من التغيير واخافتهم من مغبته ولا تنتهي بها.
· في حال الاضطرار سيتم الاعتماد على “الخفافيش” للسيطرة على المؤسسات التشريعية والمرافق الحيوية الادارية الحاكمة.
· لقد قامت الثورات من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ولم تحركها خلفيات ايدولوجية من أي نوع، ولذلك كان التمثيل المجتمعي فيها واسعا. فلسوف يَصعُب، بالتالي، مراوغة هذه الثوابت مهما تغيرت وتعددت اللبوس.