الديماغوجية كأسلوب لإقناع الآخرين و حشدهم في إتجاه سياسي أو ايديولوجي معيّن، بإثارة مخاوفهم و مخاطبة أفكارهم المسبقة، و استخدام القضايا المعيشية و الدينية و القومية لاستثارة العواطف، هي ظاهرة معروفة في المجتمعات كافة ، بغض النظر عن مستوى تطورها السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي.
غير أن لهذا الاسلوب و قعاً اَخر، أشد عمقا و خطورة في مجتمعات لم تتفتح بعد على الممارسة الديمقراطية ، و لم تتحصن بما فيه الكفاية من داء الطائفية و القبلية. وفي بلادنا ، التي طالما تغنينا بوعي الشعب فيها وو حدته و تاريخه النضالي من أجل الحرية و الاستقلال و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية، أصابنا الذهول من هذا الاستقطاب الطائفي البغيض ، حيث ضاعت المطالب المشتركة لكل مكونات المجتمع لتفعيل ميثاق العمل الوطني ، المنجز الوطني الأكبر بعد الاستقلال ، و ما تأسس على مبادئه التوافقية من واقع متقدّم ، في هستيريا الإصطفاف الطائفي و الكراهية و العنف و الميل الى نبذ الآخر.
لقد بذل الكثيرون من الحريصين على مصير الوطن جهودا غير قليلة للخروج من الحالة النشاز في تاريخنا الوطني ، و طُرحت مبادرات عدة من شخصيات و جمعيات سياسية ، و لكنها لم تفلح حتى الآن في وضع حد لهذا الجنون .
قد يرى البعض أننا نبالغ في هذا التوصيف للحالة العامة في البلاد ، غير أن الواقع يؤكد أن الأزمة أعمق مما نتصور، و لا يحتمل التجميل و المجاملة. فالشرخ قائم والأوضاع لا تسرّ لا في الاقتصاد و لا في السياسة و لا في الأمن. وأوضاع المنطقة و العالم ملبّدة بالغيوم و العواصف التي ستمزّق أشرعتنا و ترمي بسفينتتا إلى المجهول. و لا زال البعض يصبّ الزيت على النار، و يصرخ في المنابر و السّاحات و وسائل الإعلام أنه على حق و غيره على باطل ، نابشاً في التاريخ و الجغرافيا و الفلسفة و الدين ، عن سند لقوله و فعله ، و نُظّمت القصائد و الأغاني و كل ما يمكنه أن يلهب المشاعر لجر الناس الى المواجهة و الاستقطاب.
ينبغي التأكيد هنا ، درءا للإلتباس، أن للشعب مطالب سياسية و اجنماعية محقة لا يجوز تجاهلها، في إضفاء روح الميثاق على مناحي الحياة السياسية، و في مقدمتها تخويل البرلمان سلطات تشريعية و رقابية كاملة. و يتطلب الوضع الراهن إتخاذ خطوات عاجلة و شجاعة لإعادة بناء الثقة و إنهاء حالة الإحتقان و وضع حدّ للتوترات الأمنية العدمية ، و نزيف الدّم و التخريب ، و لعلّ أهمّها التنفيذ الفوري و غير المشروط لتوصيات لجنة بسيوني .
و في المقابل يمكن للسلطة و المعارضة أن يسهموا معاَ في لجم ديماغوجية البعض الذي لا يكف عن وضع الشروط و الشروط المقابلة أمام أي مسعى للعودة إلى الحوار و الإنتظام في حياة سياسية طبيعية تواصل عملية التحوّل الديمقراطي ، و تضع الحلول للمشاكل الحياتية للمواطنين دون تمييز ، و محاربة الفساد. هذه الأصوات التي تؤجج المشاعر و تصادر إرادة المجتمع الموحّد ، بإثارة النوازع الفئوية ، و الإدعاء بتمثيل الطائفة في وجه الطائفة الأخرى ، و تقرع طبول الإستنفار و الإستعداد للمواجهة حفاظاً على الطائفة، تقوض وحدة المجتمع و طموحاتها في الديمقراطية و التطور الإجتماعي و الإقتصادي ، و تضع مصير الوطن رهنا بالمحاور الخارجية و أطماعها.
و يجري التشكيك في أية بادرة للإنفراج، و اَخرها ما تسرّب من إتصالات بين ممثلي السلطة و بعض أطراف المعارضة ، حيث انبرى الديماغوجيّون ذاتهم للتشكيك في هذه الخطوة الهامّة ، و توزيع التهم جزافاً بالعمالة لهذا الجانب أو ذاك ، و وضع الشروط و اللاءاَت .
إنّها بلا شك حالة من الجنون السياسي و الفكري و الإنتهازية ، و غوغائية عاطفية انفعالية ، تدّعي اليقين في تفسير اللحظة الراهنة و التي هي، على مرارتها ، ليست إلاّ ومضة ً من لهيب قادم ، و فوضى تهددنا جميعاً و لن تترك لنا فسحةً للنّدم.
قدر هذا الوطن العيش المشترك و قبول الآخر .. هناك اصطفافات فكرية و مذهبية و هي ليست وليدة اليوم ، لكنها تحوّلت الآن الى تهديد لاستقرار الدولة و ديمومتها ، و محطّ تجاذب خارجي يطمح للهيمنة باستغلال انقسام المجتمع. و هناك من يتصيّد في الماء العكر لتجيير كلّ ما يمكن لتأزيم النفوس و الإبقاء على الوضع الراهن أيّا كانت النتائج ، خدمة لاستراتيجيات لا ناقة لنا فيها و لا جمل .
إنّها مسئولية تاريخية أمام الجميع في قمّة السلطة و الموالاة و المعارضة للتصدّي لهذا الإمتحان المصيري ، في إعادة التلاحم و الوحدة لهذا المجتمع مستندين إلى مخزون الحسّ الوطني لدى الشعب و القوى الوطنية و كل المخلصين و الحريصين على مصير الوطن و استقراره و تقدّمه.