لم يكن شغف الراحل أحمد راشد ثاني بمواطنه راشد الخضر، الشاعر أيضاً، و” الزكرتي ” حسب التعبير الشعبي المعروف، والذي عاش في البحرين سنوات من عمره بلا مغزى.
أحسب انه تشبه به، هو الذي كان مأخوذا بتجربته الشعرية المهمة باللهجة المحكية في الإمارات.
أتى الخضر من عجمان التي يرى أحمد راشد، أن بيئة الميناء فيها هي من كونت فيه تلك الروح الشقية للشاعر، بالمعنيين اللذين يمكن لهذه المفردة أن تحملهما: الشقاوة والشقاء، وهما صفتان طبعتا شخصية أحمد أيضاً، الآتي هو الاخر من بلدة تجاور البحر، هي خورفكان على الساحل الشرقي للإمارات، وهي بلدة كان يمكن ألا يولد فيها، فقد جاء إليها أبوه البحار من دبي وتزوج أمه الفلاحة التي أبقت الأب بجوارها، لذلك اعتبر نفسه كابن لمصادفة بحرية، جعلته يقضي طفولته وهو منكب على ذلك الساحل، يقيم من طين أمواجه تماثيل أحلامه.
طفل الشقاوة والشقاء ذهب باكراً إلى الشعر، والشعر مدار واسع أخذه إلى فضاءات جديدة: المسرح والحفر في التاريخ الثقافي للإمارات والخليج.
في تقديري الشخصي فإن أحمد راشد أفضل من كتب في التاريخ الثقافي لبلاده وفق منهج تقدمي، ولم يكن هذا المنهج نتاج المطالعات الأكاديمية، بمقدار ما كان حصيلة الفكر الإنساني الواعي الذي تشكل خلال المسيرة الإبداعية والبحثية في حياته المليئة بالمعنى، رغم قصرها.
لم تتسع خورفكان المحاصرة بين بحر وجبل لجناحي أحمد راشد ثاني الشغوفين للطيران، فذهب بعيداً، سافر في الحياة، لعله كان آخذاً بنصيحة انطون تشيخوف: «الجثمان هو الذي تكفيه من الأرض أمتار ثلاثة. أما الإنسان فهو بحاجة إلى الكرة الأرضية كلها، بحاجة إلى الطبيعة كلها، فهناك في اتساعها الهائل يستطيع كشف كنهه وميزات روحه الحرة»!
لذا كان يحلم بالسفر إلى أماكن لم يذهب إليها من قبل، أماكن لا يعرف فيها أحدا ولا يعرفه فيها احد، أماكن غريبة عنه كليا، خصوصا في الشرق الأقصى بآسيا، أو أمريكا اللاتينية، أو إفريقيا، سواحل إفريقيا من جهة زنجبار وما حولها.
ظلَّ ثمة ظمأ لم يرتوِ لديه: ظمأ الشعر وهو الشاعر المبدع، وظمأ الحب وهو العاشق. عن ذلك يقول: ما نظنه شعرا هو ما استطعنا الوصول إليه من الشعر، وما نظنه حبا هو ما استطاعت قلوبنا أن تخفق به من الحب، وكلما حدقنا نحن في ما استطعنا الوصول إليه وما خفقت به قلوبنا، كلما رأينا أن الظمأ مازال يتشبث في كينونتنا، في نبضنا الحي.
هل كان أحمد راشد يعيش الحياة على حافة الموت، هو الذي يعتقد أن حياته كلها كانت مصادفة، فأخوه الذي يكبره مات طفلاً وكذلك أخوه الأصغر. هو الوحيد الذي عاش، رغم أنه كان منذ طفولته مشروعاً للموت بسبب المرض والمعاناة. (عشتُ للموتِ• يقول أحمد في نصه «قيل لي»، يكادُ الماءُ يعرفُنِي، ومنذ أن سَقَطَتِ السماءُ في رأسِي وأنا أمشي كظلٍّ في طريقِ المقبرةِ المليء بِصراخِ الأشجارِ، وحشرجةِ الموجِ، ونحيبِ الأحجار). الفتى الذي عاش للموت صنع له ولنا حياة نحبها.