يبدو أن بعض الاقلام والمنابر الإعلامية قد فقدت بوصلة الحكمة وطلقتها بالثلاث. فهي لا تكتفي بالتركيز على السلبي من الأحداث والبناء عليه دون الاهتمام بأية بوادر إيجابية تصدر من هذا الطرف أو ذاك, بل وترفض وتزدري هذه البوادر وتشكك في النوايا, وتروج للإحباط وانسداد أفق الخروج من الأزمة.
ويتساءل المرء عن دوافع مثل هذه الأقلام التي يفيض بعضها بنفَس الإنتقام وتضع حداً فاصلاً بين الذات والآخر, بين من يستحق المكافأة ومن يستحق العقاب. هذا النفًس يلوم الدولة ويعتبرها متقاعسة في ضرب معارضيها وأنها, في المقابل, لا تكافئ من «وقفوا معها». هؤلاء المطالبون بالعطايا لبطولات وهمية إنما يعملون على زج الدولة في سياسة تهدم ولا تبني, تفرق ولا تجمع.
الكل يتحدث عن الخراب والحرائق والقتلى والجرحى. الكل يرى أن الدولة لا يمكن أن تحتمل هذا النزيف الاقتصادي والمعنوي, وتَعمّق الإنقسام الطائفي, وضياع الهيبة. ومع ذلك فهناك من يتعامل مع الدولة كجمعية سياسية أو ميليشيا وليس كمنظومة سياسية ومجموعة مؤسسات مكلفة بقيادة المجتمع وحمايته بالشكل الذي ينظمه الدستور, والتي يسعى أبناؤها الى تطويرها وترسيخ الأسس الديمقراطية في بنيتها وممارساتها عبر توسيع المشاركة الشعبية في القرارات السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
وحيال استمرار الأزمة وإصرار بعض أطياف المعارضة على استخدام لغة الشارع والمكابرة والرهان على «المجتمع الدولي» وبعض الفضائيات وما يترتب عليه من تعميق الهُوة مع النظام وإفشال توجهاته الإصلاحية ومساعي رأس الدولة إلى الحوار, وتشجيع الجهات المتشددة في الجانبين على عرقلة عجلة الإصلاح وإبقاء حالة الإنقسام في المجتمع لتتفرغ هي لمصالحها الخاصة, يجد البعض فرصته لصب الزيت على النار واللعب على عواطف الناس, وإيهامهم بأنهم أمام غول شيطاني لا بد من حرقه قبل أن يبتلعهم!
هذا النمط من التفكير يقوم أساساً على فكرة الإقصاء ورفض منطق الحوار, ويدعو الدولة إلى الإنحراف عن دورها الجامع والإنزلاق إلى سياسة القمع وتأجيج الأزمة بما قد يؤدي في المحصلة إلى ضياع الدولة والمجتمع معاً. غير أن الأسوأ في هذا النمط من التفكير هو دعوة العامة إلى العنف بحجة أن الدولة متقاعسة و بأن هناك من يستحق العقاب على خلفية مواقفهم إبّان الأزمة. وإذا ما ربطنا هذا المنحى الفوضوي بما يحدث على أرض الواقع من اعتداءات سافرة على حياة الناس وممتلكاتهم, تتضح معالم الأفق الذي تأخذنا صوبه هذه الأقلام ومن تمثلهم.
المشروع الإصلاحي جاء ليقيم دولة القانون وسيادته. وقوانين الدنيا تحصر استخدام القوة وتنفيذ العقوبة في يد الدولة, كي لا تتحول المجتمعات الى غابات للوحوش. لذا فإن دعوات القصاص المتبادل لا تخالف القانون وحسب, بل وتشوه طبيعة النفس البحرينية وكل التراث والنضال الوطني البحريني.
إن أي عنف في الشارع من أي طرف كان وأي اعتداء على ممتلكات المواطنين ودعوات المقاطعة إنما هي أفعال غوغائية مخالفة للقانون وللصالح العام, وموجهة ضد المساعي الخيرة في النظام والمجتمع للتهدئة والخروج من الأزمة, وإعادة الحياة للإقتصاد والنشاط التجاري والعمل المجتمعي والسياسي. ونتضامن هنا مع الأصوات الواعية التي بدأت ترتفع ضد هذه الممارسات في غرفة التجارة وفي الإعلام وبعض المنابر الدينية.
فهذه الممارسات لا تخدم لا الطائفة ولا الدولة المكلفة بضبط الأمن والتعاطي الجدي والصارم مع كل مظاهر الإنتقام والتعدي على أرواح الناس وممتلكاتهم أياً كان مصدرها. فهؤلاء المنفلتون إلى العبث سواء في أزقة الثقافة بالمحرق أو في مناطق أخرى من الوطن المجروح في وحدته وطموحاته, من أي طائفة كانوا, شيطان يهدد أمننا وكياننا اليوم وفي المستقبل. إن هذا المسلك بذرة فساد في أرضنا الطيبة إن لم تقلتع اليوم, تمددت وخنقت كل محاصيل الخير التي ارتوت بدماء وعرق كل الأجيال التي تشرفت بالتعاقب في العيش على ارض البحرين. فلتتوقف أصوات التحريض والإنتقام ولتعالج الأمور بالتحليل الموضوعي والنفس الجامع العابر للطائفية ومن منظور الآتي من التاريخ واحتمالاته, ومن المصلحة الآنية والمستقبلية لهذا المجتمع المفعم بالحركة والآمال.
الأيام 28 أبريل 2012