المنشور

” رفات ” لوركا


لا أذكر في أي رواية قرأت عن امرأة خرجت من إطار صورتها المعلقة على جدار بيت، كان رجلا يطيل التحديق في صورة المرأة، ولطول تحديقه فيها تعلق بالمرأة التي خرجت له ذات ليلة لتسامره. هل كفَّت الصورة عن أن تكون صورة، وتحولت إلى امرأة حقيقية، أم أن الأمر من صنع المخيلة، مجرد أضغاث أحلام؟ أدهشني أن مثل هذه الصورة المعلقة على الجدار كانت الحب الأول للشاعر الأسباني فدريكو جارثيا لوركا الذي اغتالته عصابات فرانكو انتقاماً من مواقفه التقدمية المعادية للفاشية، مع فارق أنها لم تكن معلقة على الجدار، وإنما موضوعة، كيفما اتفق، في صندوق ملابس بالبيت، وفي كل مرة يتم فيها إخراج الملابس من الصندوق كان الصبي لوركا يهرع لمشاهدة صورة الفتاة، ليشعر بعدها بذكراها ممتزجة مع تلك الرائحة الفريدة للأشياء المغلقة.
 
هذا ما يرويه لوركا نفسه في الجزء الذي يحمل عنوان: «حبي الأول»، في مذكراته التي نشرت لأول مرة ترجمة لها بالعربية في أحد أعداد «أخبار الأدب»، وضعتها مروة حلمي. على محيا فتاة لوركا في الصورة ارتسمت ضحكة بسيطة وحزينة بحيث تبدو وكأنها ستبكي، يداها متشابكتان، وأمام صدرها باقة من الزهور. ثوبها الفضفاض والفاخر مطرز بالضفائر السود .
 
حيرت هذه الصورة لوركا طويلاً، حين سأل أمه من تكون، قالت إنها إحدى صديقات أمها، وأنها ماتت في سن صغيرة جداً، وخلال الساعات التي كانت الأسرة تترك الصبي لوركا وحيداً في البيت، كان يتسلل بحذر شديد نحو الصندوق، ويقلب الخطابات والحرائر والتذكارات بحثاً عن اللوحة ليحدق فيها. كانت عيناها كبيرتين مثل الشموس، وفمها كنز من العذوبة، وكان يتخيل تلك الفتاة الشقراء وهي تتحدث معه، وتحكي له أغرب وأروع القصص، قبل أن يسارع إلى إخفاء اللوحة حين يتراءى له أن الفتاة تحرك عينيها، فيشعر بالخوف من أنها ستسحره. في بعض الأحايين تبدو كأنها تسدي له النصح، فيضع اللوحة على وجهه، ويبكي دون أن يعرف السبب، فهو لم يكن يعلم ما إذا كانت ستحين لحظة يشرح فيها تلك المشاعر الغامضة التي تجتاحه إزاء صاحبة الصورة.
 
سيوجز لوركا القول بأن تلك المرأة التي مرت على هذه الدنيا منذ سنوات طويلة كانت أقوى حب متوهج شعر به في حياته القصيرة. في إحدى قصائده تنبأ لوركا بأن جثته لن يُعثر عليها بعد موته. وللدهشة فإن هذا ما حدث بالضبط، ففي مكان ما في التلال المحيطة بغرناطة في عام 1936 قتلت فرق الموت الفاشية، المؤتمرة بأوامر فرانكو، لوركا الذي كان في الثلاثينات من عمره فحسب. كان يهجس بالموت، لذا طلب أن تبقى نافذته مفتوحةً عندما يموت. لكنه لم يَمت، إنما قُتل غيلةً. لم تكن ثمة نافذة لتفتح لحظةَ قتله في الفضاء الشاسع تحت السماء الأندلسية، ولكن الشاعر الذي أراد لنفسه موتاً شاعرياً كان يقول نبوءته في ان شعره سيُحلق من خلف نوافذ غرناطة، التي عاش وتعلم وناضل وقُتل فيها، ليطوف الدنيا.
 
في العام 2008 أمر أحد القضاة الأسبان بفتح عددٍ من المقابر الجماعية لضحايا الفاشية في الحرب الأهلية في بلاده، لأن هذا القاضي الشجاع وضع على عاتقه مهمة إنصاف ذكرى هؤلاء الضحايا، فاستجاب القاضي لنداء ذوي من فُقدوا فترة حكم فرانكو، والذين يُقدر عددهم بـ 500000 شخص. رفات الشاعر لوركا الذي مات حباً سيكون في واحدةٍ من هذه المقابر.
 
24 ابريل 2012