جاءت حوادث الانتفاضات العربية الشعبية ضد الاستبداد وتوابعها وتداعياتها المستمرة، والتي ذهبت مصطلحا متداولا عربيا وعالميا، اسمه “الربيع العربي”، جاءت مفاجئة وصادمة للجميع، بمن فيهم ممثلو الانتلجنسيا العربية (المحسوبين على الوسط الثقافي العربي الواسع)، خصوصا لجهة سعة نطاقها والقوى الاجتماعية العريضة ذات المشارب المختلفة المشاركة فيها، ولجهة فرضها حالة من الفرز العميق الذي أملته المواقف المتباينة التي حتمتها ظروف المرحلة على جميع مكونات المجتمع العربي وأطيافه المختلفة، ما كشف عن المآل الهش الذي انتهت اليه علاقات القوى المجتمعية على المستوى الكلي المجتمعي في خضم الحراك العارم ذي المباعث العرقية والطائفية والمذهبية الذي تعرضت له المجتمعات العربية على مدى العقدين ونيف الماضيين.
واذا كانت الشرائح المجتمعية الشبابية العريضة قد أثارت اعجاب وانبهار العالم أجمع بأدائها المبهر وحراكها الدؤوب والجسور في احداث النقلة النوعية في ستاتيكية البنى السياسية القائمة، فان أداء الانتلجنسيا العربية خلال عملية المخاض العسيرة التي عاشتها ولازالت المجتمعات العربية منذ مطلع العام الماضي هو الذي كان محيِّرا ومثارا للدهشة والجدل ليس فقط داخل الاقليم العربي وانما خارجه أيضا.
ورغم أهميتها في الرصد المعرفي التراكمي الضروري لاعمال التفكير والقياس والتقييم، فان القراءات المحلية التي لا تستطيع، بحكم الموروث الثقافي الغائر في اللاوعي الجمعي، الابتعاد عن بيئتها التي لازالت مشدودة الى ثقافة الفزعة والكيدية والغائية السياسية، ليست المصدر الوحيد الذي عكس تلك الحالة المتشظية التي بدت عليها – ولازالت – الانتلجنسيا العربية ابان التحولات العاصفة الي تمر بها المنطقة العربية. حتى المصادر الغربية هي الأخرى لاحظت باستغراب في قراءات تُقارب الموضوعية ذلك الغياب أو التواجد الهزيل للانتلجنسيا العربية عن أحداث “الربيع العربي” التي مارت ولازالت تمور بها الساحة العربية. في 29 اكتوبر 2011 كتب “روبرت وورث” في “نيويورك تايمز” عن غياب الانتلجنسيا العربية عن الربيع العربي بسبب ما أسماه “عقود من القمع من جهة وتغول الارثوذكسية الاسلامية السياسية من جهة ثانية”، مضيفا “أن كثيرين منهم منفيون رسميا أو قسرا واضطرارا ما أبعدهم عن التفاعل والمشاركة الفاعلة في حراك مجتمعاتهم”. وبموضوعية محقة يجد “وورث” الأعذار لما آل اليه حال المثقفين العرب من ضعف وتراجع وتهميش، اذ يقول بأن “التحول من القومية الى مطالب حقوقية مدنية والى الديمقراطية كان دوما حاضرا في خطاب المثقفين العرب. ولكن لغتهم العلمانية لم تجد لها أرضا خصبة في ظل تغول الاسلام السياسي”. ويستطرد في القول أن “حسن حنفي طالب في ثمانينيات القرن الماض باعتماد مقاربة العدالة الاجتماعية من داخل روح وفلسفة الاسلام في بناء الأوطان والمجتمعات فتلقى تهديدات بالقتل، وانه في حين وجدت أفكاره هذه لها صدى واسعا في بلاد بعيدة مثل اندونيسيا فانها حوربت في بلاده”.
وهناك تقييمات أخرى أقل تفهما وأكثر صرامةً في تناولاتها، السطحية العابرة والأخرى الرصينة العميقة، للموقف الملتبس، بوجه عام، للانتلجنسيا العربية ابان وبعد زوابع “الربيع العربي”. بعض تلك التقييمات يذهب الى أن كثيرا من ممثلي الانتلجنسيا العربية اختاروا بمحض ارادتهم نفي أنفسهم وهم داخل أوطانهم والنأي بها عن “مَواطن الزلل” والتوريط، فيما اختار آخرون مواصلة اجترار الماضي “التليد” الذي لا يكلف المرء عناء مشاركة الناس هموم البحث عن مخارج لمآزقهم التاريخية في النمو والتقدم المستدام. ويقارن بعض أصحاب هذه التقييمات بين الدور القيادي الذي لعبته الانتلجنسيا في أوروبا الشرقية في احداث التحولات الديموقراطية الكبرى أوخر ثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن الماضي وبين دور التابع لحركة الاحتجاجات الشعبية العارمة الذي اكتفى به القسم الأعظم من الانتلجنسيا العربية في أحداث “الربيع العربي”. وهناك من الذين قرأوا واجتهدوا، من منطلقات تقييم منهجية وغير منهجية، مختلفة، في محاولة منهم لتفسير تلك التحولات اللافتة في الأوضاع العامة والخاصة لأوساط متباينة السعة والحجم من الانتلجنسيا العربية.
والواقع أن من الصعب النظر الى الانتلجنسيا العربية ككتلة واحدة متجانسة، فأفراد أوساطها ينتمون الى فئات اجتماعية ومنابت ومشارب مختلفة ومتباينة بتباين مواقعها المتفاوتة من الحيازات والمِلكيات والمصالح وتباين حظوظها التعليمية وامكاناتها الفكرية المؤسسة علميا.
وهذا ما يجعل من مسألة اختزال حالتها ووضع كافة عناصرها في سلة واحدة واخضاعها من ثم للفحص والتقييم، عملية مخلة من الناحيتين المنهجية والموضوعية. فهناك من شاركوا في الربيع العربي، من دون بخل بكل امكانياتهم وبكل أريحية واخلاص، وذلك فاءً لمناقبياتهم الانسانية التي لطالما انتظروا الفرصة التاريخية لتجسيدها فعلا حيا على الأرض، وهناك من شاركوا بهمة كجنود مجهولين وسط الموج الجماهيري الهادر، وهناك من آثر السلامة بالوقوف على الحياد لحكمة في النفس لا يعلمها سوى صاحبها وفحواها قول الشاعر “رب يوم بكيت فيه فلما صرت في غيره بكيت عليه”، وهناك من “صنعوا المفاجأة” الفارقة بتحولهم الدرامي الى عصبتهم ما قبل الحداثية ومكونهم الاجتماعي السابق لمعتنَقاتهم الوجاهية، فكان أن أغرقوا أنفسهم في تهويمات متهالكة غير مفهومة تتوسل أعاجيب التسويغات والتبريرات لبهلوانياتهم المنافحة عن انحيازاتهم العجيبة لاستمرار حالة الاستبداد، في حين انهم كانوا في حقيقة الأمر ينافحون عن تحقيق ذواتهم واستمرار تأمين مصالحهم الكامنة على ما بدا في ضمان استمرار “بقاء الوضع على ما هو عليه”. وبذا تكون الانتماءات العرقية والطائفية والمذهبية قد تغلبت على ما عداها من انتماءات اتضح انها لم تكن سوى بزات “ميري” للتأنق والتمظهر بما تستلزمه موجبات “الكشخة” الوجاهية السياسية والأدبية والفكرية، مثلما تبين أيضا أن المصالح الشخصية المرتبطة بالامتيازات التي تحوزها العصبة المجتمعية المعينة، لها الغلبة على ما عداها من أنساق قيم ومناقبيات انسانية كونية مشتركة، ذلك ان المشترك، كما هو معلوم، في كل تلك الانتماءات العصبوية، أو كما هو مفترض على الأقل، هو المحتوى الانساني لعلاقات البشر بغض النظر عن البقعة الجغرافية التي يتواجدون فيها وبغض النظر عن لونهم وجنسهم وما الى ذلك، فهذا المكون المناقبي الرفيع لم يستطع استقطاب سوى النزر اليسير من الانتلجنسيا العربية.
ويمكن القول عطفا على ما تقدم أن زوابع الربيع العربي” قد كشفت عن الآتي:
-
مدى الضعف البنيوي الفكري غير المؤسس منهجيا ومدرسيا لكثير من المحسوبين على الوسط الانتلجنسي، ناهيك عن تكشف حجم الانفصال بين الوعي بالقيم الايجابية الأولية لمستلزمات التقدم الانساني وبين الايمان بها.
-
حجم التحولات الاقتصادية التي أصابت البنى الاجتماعية والتي انعكست بالضرورة على الأوضاع الحياتية لشرائح المجتمع العربي المختلفة وبضمنها الانتلجنسيا.
حرر في 20 أبريل 2012