لإعتبارات عدة تُعد تونس هي أقرب البلدان العربية قاطبةً إلى الحداثة والى المستقبل. في أساس ذلك يكمن التراث المهم للحقبة البورقيبية، التي يتذكرها التوانسة اليوم بحنين، وجسدَّت الحركة النقابية بقيادة الاتحاد التونسي للشغل الثقل النوعي للطبقة العاملة التونسية في مجمل الخريطة الاجتماعية والسياسية في البلاد، ومثلها شكَّلت الحركة النسوية المستندة إلى الضمانات المهمة التي حوتها مجلة الأحوال الشخصية دوراً ليس فقط في تطوير حقوق المرأة، وإنما أيضاً في تعميق المنجز الحداثي للمجتمع عامة.
على أرضية هذا المنجز بالذات جاءت الثورة التونسية التي أسقطت زين العابدين بن علي وحلقته الفاسدة المستبدة، وهنا تصح المقولة العميقة لغرامشي عن أن القديم يموت فيما الجديد لم يُولد بعد، فكان أن قطف ثمار التحول الذي جرى قوى غير تلك التي صنعت الثورة وصاغت شعاراتها، وهو الأمر نفسه الذي حدث مع ثورة 25 يناير في مصر، فالإخوان المسلمون لم يلتحقوا بها إلا متأخرين، ولكن لأنهم القوة الأكثر تنظيماً والأقوى من حيث الإمكانيات المادية واللوجستية كانوا من حَصد غلتها، بدعمٍ مكشوف من قوى عربية وبتواطؤ أمريكي لا يخفى عن العين الفاحصة.
ثمة من أعطى الإسلاميين في تونس ميزة تقدمهم على نظرائهم في البلدان العربية الأخرى، ولا يخلو الأمر من بعض الصحة من حيث الشكل فقط، لا من حيث الجوهر، فليس بوسع مجتمع منفتح كالمجتمع التونسي أن يستسيغ خطاباً أخوانياً فجاً كذاك الموجود في مصر مثلاً، وكان على حزب النهضة أن يداري خطابه عبر استخدام مفردات حداثية، وأن يطعم قائمته الانتخابية ببعض النساء غير المحجبات، ليظهر قابليته للتكيف مع المنجز الحداثي هناك.
لكن الطبع يغلب التطبع كما يُقال، فما شهدتهُ شوارع تونس العاصمة يوم الاثنين الماضي الذي صادف يوم الشهداء من تصدي قوات الأمن وميليشيا حزب النهضة للمتظاهرين، ومن اعتداءات طالت سياسيين وصحافيين، وهو الأمر الذي نددت به أحزاب سياسية ونقابات وجمعيات، معتبرة إياه بداية العودة إلى دكتاتورية النظام السابق خاصة في ما يتعلق بالاعتماد على المليشيات لقمع المخالفين، ومن بين المنددين حزب المؤتمر من اجل الجمهورية المشارك في الحكومة.
وعلى خلاف ما يُعتقد من أن حزب النهضة قد تنازل طوعاً عن التنصيص في الدستور الجديد على أن الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع، والاكتفاء بالفصل الأول من دستور يونيو 1959 على أن تونس «دولة حرة مستقلة دينها الإسلام ولغتها العربية»، فان ذلك لم يتم إلا تحت ضغط حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، الحليف الأول لحركة النهضة قد اعترض على مسألة التنصيص على الشريعة في الدستور، في حين ذهب الدكتور مصطفى بن جعفر، رئيس حزب التكتل الديمقراطي من أجل الحقوق والحريات الذي يتولى رئاسة المجلس التأسيسي إلى حد التهديد بالقطيعة في صورة تمسّك النهضة بهذه المسألة.
المحلل التونسي صلاح الدين الجورشي يرى أن الحراك السياسي في تونس سيستمر بنسق متصاعد، وهذا أمر طبيعي لأن تضاريس الأرض التونسية لم تتخذ شكلها النهائي، وما دامت ارتدادات وتداعيات التغيير الذي حدث متواصلة، فإن المشهد العام سيبقى بلا ريب قابلا للتغيّر والتعديل.