يمنحنا توجيه مجلس الوزراء مؤخرا الى اللجنة الوزارية للشؤون القانونية بدراسة تشديد العقوبات على من يهدر المال العام او يتربح منه، واحالة كل من يثبت تقصيره او مخالفته للانظمة المعمول بها الى الجهات المختصة بوزارة الداخلية والمقرون بالتأكيد على اهمية الحفاظ على المال العام. وتاليا مشروع قرار مجلس الوزراء بضوابط التصرفات المالية للوزارات والجهات الحكومية والمؤسسات العامة وتشديد احكام الرقابة على ميزانياتها باعتبارها من الاموال العامة.
يمنحنا هذا التوجيه، وهذا المشروع كما يمنحنا تأكيد سمو رئيس الوزراء بوجوب القضاء على البيروقراطية، وضرورة التحقق من تنفيذ الخطط والبرامج الحكومية على ارض الواقع، بجانب قول نائب رئيس الوزراء بان استراتيجية الحكومة الاليكترونية، ترتكز على اعلى درجات الشفافية والكفاءة والفاعلية والجودة والاداء. يمنحنا ذلك كله فرصة، بل فرصتين، الاولى فرصة تأكيد كم هو ضروري وملح ومجد اظهار الحزم والحسم والردع لكل صور ومظاهر الخلل والانحرافات والتجاوز والفساد والهدر في المال العام، وان هذا الموضوع سيظل الاهم في المطلق ودائما وابدا والقاسم المشترك في اهتمامات الناس في هذا البلد، الذين مازالوا في انتظار خطوات جريئة ومشجعة تستحق ان تسجل في خانة الانجازات الفعلية على طريق حزم الامر باظهار قيمة المساءلة والمحاسبة من غرفة العناية الفائقة وجعلها نجم المرحلة..!!
اما الفرصة الثانية، فهي فرصة لفت الانتباه الى اوضاع اجهزة في الدولة تمعن في عدم احترام اي قواعد قانونية او ادارية او تنظيمية او رقابية تحكم عملها وتتصرف بعيدا عن اي التزام او قبول لمبدأ المحاسبة لا حاليا ولا في الافق المنظور. هذا الكلام في المضمون والتفاصيل والحيثيات التي تتوزع على ابواب عدة تتراوح بين قيمة المسؤولية وقيمة المساءلة تلقيناها في رسالة بعلم الوصول، ولا نعلم ما اذا كان وصف هذه التفاصيل بانها «صدمة» يعد كافيا ام لا، ام انه مازال يعد في خانة العادي والبسيط مما لا يحتاج الى استنفار جهود فوق العادة على مختلف المستويات والصعد والاوساط. اهم ما في هذا الكلام انه صادر هذه المرة من مسؤول رسمي في جهاز حكومي، وكلامه لا مجال للاجتهاد، ولا لبس فيه ولا غموض، والاهم الاهم ان الجهاز الذي يمثله هو المعنى والمختص بالضوابط، وبالمخالفات والجزاءات والتطوير والرقابة على الجهات الحكومية، والمعنى والمختص بسير العمل وبتطوير الخدمة فيها ورفع كفاءتها الانتاجية، وتحقيق العدالة في معاملة الموظفين، وحسن سير انجاز معاملات المواطنين.
لن نطيل.. ومن المهم التنبيه بان الكلام صادر تحديدا عن مدير ادارة الرقابة الادارية، والجهاز المعني هو جهاز ديوان الخدمة المدنية، وهو كلام موثق ومنشور في هذه الجريدة في العدد الصادر في 21 مارس 2011، وهو كلام لا نعرف كيف مر مرور الكرام خاصة من جانب الذين نفترض انهم معنيون بجعل الجهاز الحكومي يحمل ويتحمل مسؤولياته كما يجب، ومهتمون بنقل العمل الحكومي من مفهوم الادارة العامة الى مفهوم ادارة الاعمال التي تلتزم بالشفافية وتؤمن بالمحاسبة وتأبى الجمود والانغلاق وتسعى للابتكار والتطوير.
لا مفر من ان تسمى الاشياء باسمائها، والرجل تولى هذه المهمة باقتدار، وفي كلامه اقرار بوجود مشكلة تستحق النظر وسرعة البحث عن حل حاسم، فهو يشير بوضوح الى عدم تعاون بعض الجهات الحكومية مع الرقابة الادارية، ويشير الى عدم التزام تلك الجهات بتوصيات فريق الرقابة الادارية في معالجة المخالفات المرصودة بحقها.
الرجل وانتبهوا جيدا، يقول: «ان ادارته لاحظت تكرار بعض المخالفات الادارية، وان بعض الجهات تتأخر في الاستجابة لتوصيات فريق الرقابة الادارية سواء بالتأخير في الرد او عدم الرد او عدم تنفيذ التوصيات او تنفيذها على نحو لا يحقق الهدف من ورائها بما يعيق سير العملية الرقابية».
ذلك غيض من فيض، وما قاله الرجل قد يفسر السبب في تكرار المخالفات والتجاوزات التي يرصدها كل عام ديوان الرقابة المالية والادارية، وهو الذي في تقاريره يكشف ما هو ادهى وامر.
ماذا يعني ذلك؟!
– انه يعني ان ثمة وزارات واجهزة رسمية لا تلتزم ولا تقبل الخضوع لمبدأ الرقابة والمحاسبة، ليس لانها لسبب او لآخر لا تستطيع ذلك، ولكن الأدق والاصعب انها لا تريد ذلك، مما يفتح ابوابا كثيرة لتصرفات غير مسؤولة..!!
– انه يعني ان هناك مواطن خلل وقصور وانحراف وتجاوزات وفساد وممارسات تمس النزاهة والامانة مازالت متفشية في الادارة ولم تواجه حتى الآن بالحزم والحسم والردع.
– انه يعني ان غض النظر عن تلك الوزارات والاجهزة التي تخترق قواعد العمل المسؤول يفتح الباب لخروقات ومخالفات اكبر.
– انه يعني الحاجة الى النظر بمنتهى الجدية في اجراء تطهير وتطوير عاجلين في الادارة الحكومية وتزويدها باهل الكفاءة والخبرة والاختصاص، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
– انه يعني ان تقارير الهيئات الرقابية مازالت تصدر من باب تحصيل الحاصل وان هذه الهيئات مازالت بحاجة الى قيمة وهيبة واعتبار.
– انه يعني اهمية تفعيل الدور الرقابي اقتناعا ومنهجا سواء من جانب ديوان الخدمة المدنية، او ديوان الرقابة المالية والادارية، او مجلس المناقصات، او ادارة مكافحة الفساد بوزارة الداخلية، وحتى الدور الرقابي لمجلس النواب، تفعيل دور تلك الجهات وتمكينها من ممارسة صلاحياتها ومراقبة ضبط الانفاق الحكومي، هو عمل اصلاحي بحد ذاته يمكن ان يكون له مفاعيل ايجابية على مستوى الادارة ووقف انتاج ماهو مشكوك منه فيها.
– انه يعني الكثير، وضمن ما يعنيه بوجه الاجمال ان ردود الفعل والتصريحات تتركز حول قاسم مشترك ميزته اغفال التصدي لجوهر المشكلة..
انه يعني واخيرا اننا امام قضية تتصل بالمعضلات والتحديات التي يواجهها مجتمعنا البحريني.
11 ابريل 2012