ثمة نقاش دار لفترة طويلة عن أي البلدان أكثر سرعة في إنجاز معدلات النمو الاقتصادي، أهي تلك التي تتوفر فيها الحريات الديمقراطية والمشاركة السياسية، بما تفرضه من وجود برلمانات منتخبة ذات صلاحية تراقب أداء الحكومات وطريقة إنفاقها للمال العام، وتتابع خطط التنمية أولاً بأول، ومن مؤسسات يقظة ومستقلة للمجتمع المدني تمتلك قدراً من الندية إزاء الحكومات، أم تلك البلدان التي لا تتوفر فيها تلك الشروط، فتسود فيها شمولية الدولة وهيمنتها المطلقة على كافة الفضاءات؟
وكان هناك رأيان في هذا الخصوص، الأول يؤكد أن الفئة الأولى هي الأكثر قابلية للنمو، لأن وجود الرقابة التشريعية والشعبية الفعالة يحد من الفساد، ويضمن عدم تسرب المال العام إلى الجيوب الخاصة، ويوفر آليات فعالة لمحاسبة المتورطين بالفساد أو إقصائهم عن مواقع القرار، ولكن، في المقابل، كان هناك مؤيدون للرأي الآخر، وكانوا يعطون أمثلة على ذلك بما حققته بعض بلدان جنوب شرق آسيا من نمو، رغم غياب الديمقراطية فيها في سنوات النمو تلك، كما جرى حديث عن النموذج التشيلي في عهد الدكتاتور بينوشيه، الذي حوّل البلاد إلى سجن كبير، لكن البلاد شهدت تحسناً ملموساً في معدلات النمو الاقتصادي.
هذا السجال لم يكن له محل من الصُدقية في العالم العربي، رغم أن بعض مريدي الليبرالية حاولوا أن يقرنوا توفر الديمقراطية بالفوضى وغياب الاستقرار السياسي، مما يخلق بيئة طاردة للنمو الاقتصادي، لكن الحق أن الأغلبية الساحقة من بلداننا عانت وتعاني من نقص مريع في الأمرين، في الديمقراطية وفي النمو الاقتصادي، حيث لم يكن ممكناً أن نلتمس العذر لمن غيبوا الديمقراطية، طالما أن غيابها ترافق أيضاً مع فشل ذريع في التنمية، واستشراء للفساد، وهو فساد آخذ في التكشف أكثر فأكثر، مع نشر المعطيات عن ثروات الزعماء الذين خلعتهم ثورات شعوبهم مؤخراً، أو أولئك الذين مازالوا في سدة الحكم.
كانت تقارير عربية موثوقة صدرت عن الفجوة بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، التي فيها بالذات يكمن السبب الرئيس في تلاشي الطبقة الوسطى التي كانت رافعة للتقدم والفكر المستنير في مراحل تاريخية سابقة، يوم أسهم أبناء هذه الطبقة ممن تلقوا التعليم الجيد، وتمتعوا بمداخيل مستقرة وجيدة، في صوغ الوعي الجديد في مجتمعاتنا، وفي ظروف اليوم تظهر ماثلة للعيان النتائج المدمرة للسياسات الحكومية العربية التي أخفقت على الجبهتين: جبهة المشاركة الشعبية في صنع القرار التي لا تتوفر إلا بتوفر الحريات، وجبهة التنمية الاقتصادية التي لا تتحقق إلا اذا جرى الفصل القاطع بين المالين: العام والخاص.
أمور كثيرة تغيرت في بلداننا العربية، فقد تراكمت الثروات في أيدي فئات محدودة العدد من الأغنياء، وتعمم الفقر بحيث أصبح ظاهرة اجتماعية خطرة، ترتب عليها الكثير من أشكال الوعي المزيف، والنزوع نحو الانغلاق. ورغم أن حديثاً جرى عن تحقيق بعض البلدان العربية معدلات نمو مستقرة، كما الحال بالنسبة إلى مصر في عهد حسني مبارك، إلا أن في هذا الكثير من التضليل، لأن ذلك لم يقترن بخطط جدية في إعادة توزيع الثروات بشكل عادل. لقد غيّبوا الديمقراطية ولم يحققوا التنمية.
9 أبريل 2012