المنشور

البرازيل وحرب العملات


طرحت البرازيل مؤخراً على منظمة التجارة العالمية قضية قيام بعض المصارف المركزية للدول الأعضاء في المنظمة باتباع سياسة سعر الصرف المنخفض لعملاتها الوطنية، وطالبت المنظمة النظر بجدية في إمكانية إدراج مثل هذه الممارسة ضمن أنواع الدعم (Subsidy) المحظور بموجب اتفاقية الدعم والإجراءات التعويضية المضادة (Agreement on Subsidies and Countervailing Measures) المنبثقة عن المنظمة. وقد اشتكت البرازيل مراراً من قيام بعض الدول الأعضاء بإعطاء عملاتها الوطنية مزايا من خلال التلاعب بسعر الصرف بما ينعكس سلباً على التجارة الدولية.
 
وبحسـب ممثل البرازيل في منظمـة التجـارة العالميـة روبرتو أزيفيدو Roberto Azevedo فإن المنظمة قد درست الموضوع وتبين لها بأنه إذا كانت الآثار الطويلة المدى لتحركات سعر الصرف غير واضحة فإنها على المدى القصير يمكن أن تتسبب بالفعل في تغيير الأسعار وتؤثر حتى على تخصيص الموارد للقطاعات المتصلة بالتجارة والقطاعات الأخرى غير التجارية في التجارة الدولية.
 
وبناءً على الطلب البرازيلي فإن المنظمة سوف تعقد ورشة مخصصة لهذا الموضوع في الربع الأول من العام الجاري، ستتدارس خلالها هذه المسألة الحساسة من منظور القطاعين العام والخاص.
 
ونتذكر طبعاً كيف كانت ردة الفعل الغربية الغاضبة على هذا المقترح البرازيلي، عكستها صحيفة فايننشال تايمز البريطانية بافتتاحية كانت مترحة بالغضب والتهجم على البرازيل وعلى مقترحها، وهو تهجم لم يحمل أية رؤية اقتصادية البتة ذات صلة بالموضوع المثار.
 
مقال الفايننشال تايمز اتهم البرازيل بالخداع وأن ما تطالب به ليس له أي أساس لأنه غير موجود أصلاً. وهو تهجم وقائي يتناسب مع ما كانت البرازيل قد وصفته قبل بضعة أشهر بأنه حرب عملات (Currency War) تورط فيها عدد من حكومات الدول الغربية الأعضاء في منظمة التجارة العالمية.
 
من الناحية الاقتصادية الموضوعية فإن ما أثارته البرازيل في منظمة التجارة العالمية يمكن أن يندرج ضمن تصنيف الدعم غير المباشر لأنه يوفر ميزة تنافسية سعرية لمنتجات الصادرات الوطنية قبالة المنتجات الأجنبية التصديرية النظـيرة والمنافسـة. وإذا ما اسـتمرت هذه السياسـة (سياسة دولار أو يورو أو ين ضعيف) واسـتمرت مفاعيلها في التجـارة الدولية فإنها يمكن أن تشكل نوعاً من الممارسات الإغراقية (Dumping practice) التي قد تستدعي رداً مقابلا تحوطياً سريعاً (من قبيل فرض رسم جمركي إضافي على السلعة/السلع موضوع الإغراق) بموازاة رفع دعوى إغراق أمام جهاز فض المنازعات لدى منظمة التجارة العالمية.
 
في الواقع هنالك الآن مشكلة في النظام النقدي العالمي، وهي مشكلة تتصل بالحركة غير المعتادة لأسعار الصرف تجاه بعضها البعض، وهي حركة تغذيها ظاهرة اللاتوازن الاقتصادي العالمي التي برزت في السنوات القليلة الماضية بعد اتساع الفجوة في معدلات النمو والأداء الاقتصادي بين الاقتصادات المركزية التقليدية والاقتصادات الصاعدة. فلقد أدى الأداء الجيد للاقتصاد البرازيلي إلى ارتفاع قيمة الريال البرازيلي بنسبة كبيرة منذ عام 2009 فاقت 40%، ووصل إلى أعلى معدل له أمام الدولار الأمريكي منذ اثني عشر عاماً، وذلك بسبب ارتفاع أسعار السلع ما أضر بالمصنعين المصدرين البرازيليين، حيث انخفضت الصادرات البرازيلية بنسبة قاربت الـ 5%. فلقد انخفض مؤشر شراء المدراء  (Purchasing-Managers Index) الذي يعده مصرف HSBC، إلى أدنى مستوى له منذ مايو 2009 حيث كانت قيمة الريال أخفض مما هي عليه الآن بنسبة 25%.
 
ليست البرازيل وحدها التي تعاني من مشكلة ارتفاع قيمة عملتها (Appreciation) بصورة مضرة بالقطاعات الاقتصادية البرازيلية المرتبطة بالتصدير. فهناك استراليا التي تشهد نمواً اقتصادياً غير عادي بفضل ازدهار صادراتها من الثروات الطبيعية، وهو ما أدى إلى ارتفاع قيمة الدولار الاسترالي بنسبة 43% منذ عام 2009 الذي شهد بداية التعافي العالمي من الأزمة المالية العالمية التي نشبت في الربع الثالث من عام 2008)، مسجلاً رقماً قياسياً بلغ في أغسطس الماضي 1.10 دولار أمريكي، قبل أن يعود في شهر أغسطس نفسه (على غرار الريال البرازيلي) إلى الانخفاض بعد الأرقام المخيبة للتعافي الاقتصادي الأمريكي والتصنيفات السلبية التي راحت تعلنها تباعاً وكالات التصنيف الدولية للديون السيادية لعدد من الدول ذات الاقتصادات المتقدمة (على اعتبار أن السوق الأمريكية تستوعب حصة مهمة من الصادرات البرازيلية والاسترالية).
 
ارتفـاع العملــة المقـترن والمرتبــط بالأسـاسيات الاقتصـادية (Economic Fundamentals)، أي بنمو الإنتاج الصناعي وبنمو بقية القطاعات الإنتاجية والمساندة، وبمؤشرات قياس إيجابية، ليس مثار جدل وتنازع مصلحي بين الشركاء التجاريين العالميين، إنما ارتفاع قيمة العملة بسبب قيام المضاربين بدفع سعر صرفها إلى أعلى استناداً إلى توقعات بأنها سترتفع في الغد، هو المشكلة. ثم أن تأثير الأساسيات على سعر الصرف ليس مستداماً وإنما هو مرتبط بحالة الدورة الاقتصادية.
 
وتختلف معالجة هذه المشكلة من دولة إلى أخرى وذلك تبعاً لظروف ومعطيات كل حالة، وإن كان شراء العملة الأجنبية من قبل البنوك المركزية لوقف هبوطها مقابل عملة البلد المعني هو الإجراء الشائع في هذا المجال. بعض الدول تلجأ إلى “إبعاد” العملة الأجنبية عن أراضيها عوضاً عن شرائها، وذلك بخلق عوامل طاردة لها مثل الضرائب والرسوم، ووضع هذا العائد الضريبي في صندوق سيادي يقوم باستثماره في أصول أجنبية. وبعض الدول تضع ضوابط على حركة رأس المال الأجنبي في أراضيها لتقليص آثار الفائض من هذه الرساميل المتدفقة على العملة الوطنية، كما فعلت تايلند وماليزيا وغيرها من الدول الآسيوية التي تعرضت لمضاربات محمومة على عملاتها أدت إلى أزمة مالية أصابتها صيف عام 1997. البرازيل الآن تضع ضريبة نسبتها 6% على المشتريات الأجنبية لسنداتها، إضافة إلى ضريبة أقل على المضاربات على الدولار في السوق المستقبلية (Future Market).
 
وكما قلنا إذا كان ارتفاع قيمة العملة مرتبط بالأساسيات، فإن أي إجراء لن يستطيع الحيلولة دون ارتفاعها كما هو حاصل مثلاً مع الريال البرازيلي، الأمر الذي أقنع الحكومة البرازيلية للإقرار في أغسطس الماضي بأن على قطاعات الأعمال البرازيلية أن تتكيف وتتعايش مع ريال قوي لفترة ليست بالقصيرة.