يحمل أحد فصول آخر كتاب للراحل سعدالله ونوس عنوان «ذاكرة النبوءات»، والكتاب يضم نصوصاً وتداعيات ووصفاً لمعاناته المريرة مع المرض عندما كان على عتبة الموت. عنوان الكتاب «عن الذاكرة والموت». ونحن نقدر أن الناشر هو من اختار له هذا العنوان لا الكاتب، لأن ما بين دفتي الكتاب من مواد يشير إلى أنها لم تكتب لتنشر في كتاب واحد. ولكن الناشر جمعها في كتاب ليوثق آخر ما كتبه الراحل الكبير وهو ينتظر الموت الذي كان الأطباء قد أنبؤوه بصريح العبارة أنه لم يبق بينه وبينه سوى شهور قليلة.
في «ذاكرة النبوءات» يروي سعدالله قصة تلك اللحظات الدقيقة التي أنبأه فيها الطبيب الفرنسي في باريس أن حالته ميؤوس منها: «حالتك غير قابلة للشفاء». أحد أصدقاء الكاتب المقربين الذي نقله من المستشفى إلى البيت تمنى له وهو يودعه أمام مدخل البناية: الشجاعة. يقول ونوس: ما معنى الشجاعة؟ وماذا تفيد الشجاعة رجلاً تقرر رحيله؟ ولماذا ينبغي أن أكون شجاعاً؟ لماذا لا يحق لي أن أنهار، وأن أعول، وأن أبكي.
باغتتني رغبة حارة بالبكاء، وبالفعل ذرفت دمعتين يتيمتين، لم أجد بعدهما ما أذرفه. حقاً، ما الشجاعة في مثل هذه الحال؟! الطبيب الذي رد على اعتراض سعدالله ونوس على العلاج الكيماوي لأنه لن يفعل سوى تنغيص أيامه الأخيرة ومضاعفة أوجاع وآثار السرطان، قال له: أنت مريض غير عادي. وأنا لم التق بكثيرين مثلك. إنك مثقف ولديك الشجاعة لمواجهة وضعك بعري ومن دون تجميل. وهنا لم يتساءل ونوس: ما هي الشجاعة؟ إن سؤاله في المرة الأولى لم يكن ينبع من جهل، لأنه كان يعيش هذه الشجاعة، كان يمارسها طوال حياته، طوال كتاباته، ولكنه كان شجاعاً أكثر في مواجهة المرض، في مصارعته هو الذي خلف في سنواته الأخيرة من آثار إبداعية تفوقت على كل ما كتبه قبل ذاك، هو الذي كان دائماً في المتراس الأمامي للكتابة وللحياة.
في مواجهة المرض الذي ينهش ذلك الطراز من الكتاب الذين يفيضون موهبة وألقاً، وأكثر الناس حساسية ودعة، تتجلى شجاعة ونبل هؤلاء. هذا ما نتيقنه من تجربة فذة كتجربة سعدالله ونوس الذي لم يترك فقط، وهو يرحل، شهادة على زمن عاشه، كان للجزء الأخير منه طعم العلقم ورائحة الخيانة، وإنما ترك أيضاً وصاياه للمستقبل، وكرر في أكثر من مناسبة، بما في ذلك كلمته الشهيرة بمناسبة يوم المسرح العالمي، أنه يقاوم السرطان بالكتابة.
وهذا ما نتيقنه من تجربة بدر شاكر السياب الذي كتب من على فراش مرضه في المستشفى الأميري في الكويت عدداً من قصائده الخالدة، وأمل دنقل الشاعر المصري الذي اختطفه الموت مبكراً كتب أعماله الأخيرة وهو على سرير المرض، ومن تجربة الراحل إداورد سعيد الذي واصل نشاطه الفكري والأكاديمي بهمة رغم إصابته هو الآخر بالسرطان الذي تمكن منه أخيراً. ونعرف من التاريخ ايضاً أن المفكر الإيطالي الشهير انطونيو غراشي كتب أهم أعماله على الإطلاق، أي دفاتر السجن، وهو يعاني من أمراض مختلفة لم تمهله طويلاً بعد خروجه من السجن الذي قضى فيه قرابة عشرين عاماً.
8 أبريل 2012