قبل تسع سنوات اصدر مركز دراسات الوحدة العربية كتاباً بعنوان «حول الخيار الديمقراطي» تضمن عدة دراسات نقدية من بينها «الديمقراطية العربية وجذور الازمة وآفاق النمو» لـ د. برهان غليون. في هذه الدراسة يرى الباحث انه بالرغم من النكسة التي تعرضت لها مسيرة الديمقراطية العربية في السنوات القليلة الماضية فان فكرة الانتقال الحتمي نحو انظمة تعترف بحقوق الفرد وحرياته وفائدة التعددية السياسية قد فرضت نفسها حتى على اعدائها وذلك بقدر ما اصبحت فكرة احتكار الحياة السياسية ومسؤولية اتخاذ القرارات العامة من قبل فئة محدودة من «الكسان» رديفة للاغتصاب والتأخر والتعلق بالقيم البائدة وهكذا فان ما كان يبدو لنا في الماضي القريب فكرة قديمة بل رجعية مخربة وسلبية اعنى الديمقراطية، اصبح الان حقيقة ملموسة على اكثر من صعيد.
الصعيد الاول هو الفكرة ذاتها. فقد اصبحت الديمقراطية هي القيمة الاولى في سلم القيم السياسية والمطلب الاول بين المطالب الاجتماعية العربية، اما على الصعيد الثاني ونقصد الصعيد العلمي فان التحول نحو الديمقراطية رغم كل المصاعب والتعرجات والتقدم والتراجع هو اليوم وسوف يبقى لسنوات طويلة قادمة محور النشاط الجماعي والقومي العربي ومفتاح العمل من اجل تحقيق الاهداف الاخرى التي لا تقل اهمية ووزناً في انهاض المجتمع اي اهداف التنمية والامن القومي ومن هنا فان التحول نحو الديمقراطية هو المطلب السياسي التاريخي اليوم فهو الهدف الذي يشكل تحقيقه مدخلاً الى تحقيق الاهداف الاخرى بينما يعنى فشله الغوص اكثر في الازمة و«التنميط» الشامل.
وعلى هذا المستوى النقدي يتحدث «غليون» عن اهمية الاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية وهي المؤشر الفعلي لأي مقاربة جدية للديمقراطية في المجتمعات العربية. ومن هذا المنطلق ربما كان فشل الدول العربية في فتح آفاق جديدة للتنمية والتطوير الاقتصادي هو العقبة الاكبر امام توسيع الخيار الديمقراطي والسير الجدي على طريق الحريات الاساسية وهذا يعنى ضرورة تغيير السياسات الاجتماعية والاستراتيجيات التقليدية التي اتبعها معظم الحكومة العربية في العقود الماضية في هذا الميدان، وفي هذا السياق يؤكد انه ما لم تشرع النخبة، حاكمة ومعارضة في ربط الاجتماعي بالمشاركة السياسية فلن يكون البديل الا فتح الباب من جديد لنزوعات الثورات الاجتماعية سواء اتخذت هذه النزوعات شكل التمردات الدينية او الانتفاضات الدموية فاستمرار الازمة الاقتصادية والاجتماعية يزيد من تهميش الفئات الشعبية وتدمير حسها الوطني والسياسي في حين ان غياب المشاركة السياسية والحوار يدفع الى المراهنة على الجماهير المتحولة ببساطة الى كتل يسهل التلاعب بها واستخدامها في مشاريع الثورات الخاصة!! .
وعن درء «مخاطر» الفوضى والانقسام يعتقد الباحث ان في مقدمة المخاوف التي تكرر كثيراً والتي تلتقي مع مخاوف مماثلة ما زالت تتردد في العديد من الاقطار التي دخلت في طور التطبيق الفعلي للتعددية السياسية، ان تقود الديمقراطية والمشاركة الفعلية والواسعة لكل القوى السياسية الى الفوضى وان تؤدي هذه الفوضى الى انفجار النزعات الطائفية او الى استلام القوى غير الديمقراطية الحكم، وبالرغم من ان هناك جزءاً كبيراً من المبالغة المقصودة من هذه المخاوف الا ان ذلك لا يمنع من وجود مثل هذه المخاطر..
ولاشك في ان من اوائل القوى التي تثير المواقف السلبية والقلق عند القوى الديمقراطية وداخل النظم جماعات الضغط الدينية العلنية والسرية وفورة العصبيات الطائفية او القبلية او الجهوية و« الا قومية» التي تترصد فرص ضعف السلطة المركزية حتى تستقل بنفسها او تضع نفسها تحت حماية القوى الاجنبية!! .
ومن تأكيدات الباحث ايضاً ان ليس المسؤولون هم الوحيدون الذين يخشون هذه المخاطر وانما تشاركهم في ذلك الاغلبية الساحقة من الرأي العام ومع ذلك ينبغي الا يغطى في الوقت نفسه على حقيقة ان الجمود او استمرار الاوضاع السياسية على ما هي عليه لا يقدم اي حل للازمة ولكنه بقدر ما يؤجل ساعة الحسم ويعمق التوترات والتناقضات يهدد بان تبقى نار التوتر الطائفي مشتعلة تحت الرماد ولا يقلل من مخاطر الانفجار وانما يجعل منه اكثر دماراً وخراباً ومما يفيد في ذلك انه اصبحت هناك قناعة عامة اليوم انه لا وجود لمشاكل وازمات ليس من الممكن مواجهتها بصراحة ووعي وبلورة الحلول الواقعية والعملية والسلمية لها على شرط ان تكون هناك نية صادقة وحقيقية للخروج من المأزق.
وعلى هذا الاساس يرى «غليون» ان جزءاً كبيراً من المسؤولين اصبح ميالاً الى هذا الحل بل غير قادر على مقاومة اغراء مثل هذه التحولات التي تحمل في طياتها الامن والسلام لمجتمعات هدمته روحها النزعات الدامية الذاتية. وفي مقابل ذلك يقول: ان خطر انقضاض الجماعات غير الديمقراطية على الديمقراطية وانجازاتها موجود دون شك. لكن لا تكون مقاومة هذا الخطر بافراغ الديمقراطية نفسها من اي مضمون.. وبالتالي فالحل يكمن في استغلال الفرص التي يقدمها المنهج الديمقراطي والسبل التي تفتحها تنمية المشاعر الوطنية والتفاؤل والامل بالمستقبل والتعلق بالسلام الاهلي.
الأيام 7 أبريل 2012