كما هو واضح حتى الآن، وبعد مرور عام على اندلاع موجات التغيير الكبرى في العالم العربي، فان الديمقراطية الحقيقية والناضجة التي ظلت حلما منشودا للمجتمعات العربية، والتي ناضل وضحى من أجلها الكثيرون من قادة الفكر والثقافة والمجتمع المدني على امتداد مرحلة الاستقلالات السياسية التي تربو على ستتة عقود – ان تلك الديمقراطية لن تكون صيدا سهل المنال، ولن تكون فسحةً “للراحة من عناء رحلة الجري ورائها والقبض عليها”، ومن ثم التمتع بمزاياها ورغيد عيشها ورفاهيتها كما هو حال الشعوب الاخرى التي سبقتنا بفواصل زمنية شاسعة على هذا الطريق.
انها ستكون – والحديث ينصرف الى البلدان العربية التي شهدت تغييرا واضحا في مشهدها السياسي العام مثل تونس ومصر وليبيا واليمن والى حد ما المغرب – مرحلة عنوانها اعادة البناء أو “بيريسترويكا” حسب التعبير الذي استخده ميخائيل جورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفييتي السابق لتسويق “رؤيته” – آنذاك – الخاصة بتفكيك البنى الراسخة للدولة السوفييتية واشادة بنى جديدة تحاكي العصر والحداثة.
والحال ان الثورات وحركات الاحتجاج الواسعة النطاق التي شهدها عديد البلدان العربية بصور متفاوتة الحدة وبأشكال مختلفة من أدوات الصراع المستخدمة، قد أدت الى الحاق اضرار جسيمة، متفاوتة المستوى أيضا، في البنية الأساسية للبلدان العربية المعنية، بعضها دُمر بالكامل أو جزئيا جراء الصور الأكثر بشاعة للصراع، وبعضه تعرض للنهب والسرقة والأعطال، وبعضها أضحى مشلولا ومتضررا ماليا بسبب الاضطرابات والأضرابات والاعتصامات، فضلا عن الأضرار التي لحقت بالموارد البشرية وبالرأسمال الاجتماعي نتيجة للتشطير الخطير الذي أصاب البنى المجتمعية الاثنية والقبلية والطائفية، وهي تصدعات تستدعي الحاجة لاعادة ترميمها في اطار عملية “اعادة البناء” التي ستنصرف اليها وتنشغل بها المجتمعات العربية في السنوات الخمس أو العشر القادمة (بحسب الحالة والظروف التي أحاطت بكل مجتمع عربي تضرر من ذلكم التشطير).
فلقد أعقب قيام الثورات والاحتجاجات تحول قطاعات واسعة من المحتجين باتجاه مطالب فرعية ذات أجندات أضيق نطاقا من المطالب الكلية للثورات والاحتجاجات، أجندات من قبيل زيادة الاجور، وتمكين المرأة واعادة الاعتبار للأقليات والمهمشين، وتطبيق الشريعة الاسلامية.. ومطالب أخرى لم يعد المحتجون الآخرون يتظاهرون من أجلها، ما أحدث حالات من الانفلات الأمني وارتفاع نسبة الجريمة بسبب ارتخاء قبضة الأجهزة الامنية نتيجة للأضرار التي لحقت بها، وكذلك الحال بالنسبة لطائقة واسعة من المرافق والهيئات والمؤسسات الانتاجية والادارية. كما دفع زخم الأحداث والتحولات الدرامية بالتجاذبات الدينية والعقائدية والعشائرية التي شكلت أحد عناوين المرحلة السابقة لاندلاع الثورات والاحتجاجات، دفعت بها بقوة بالغة الى السطح لتنشىء حالة خطيرة من الشقاق والانقسامات المجتمعية.
وهناك المؤسسات الحيوية مثل المؤسسات القضائية والمؤسسات التعليمية التي وان لم يصبها ما أصاب المرافق والمؤسسات الكلية الاخرى من اضرار، الا انها لازالت بحالتها الراهنة تشكل أحد امتدادات حالة الاستبداد “المنتهية ولايتها” افتراضا، ما يضعها على قائمة أولويات مرحلة “اعادة البناء”.
ولعل هذه الاشكالية تثير عددا من الأسئلة الحائرة من قبيل: وماذا عن الديمقراطية التي خرجت الجموع الهادرة من أجل احلالها محل الادارات الاستبدادية؟…وهل يعقل أن يكون ثمن الاحتجاج على استمرار الجمود والركود اللذين ظلا يطاولان ما بعد المستوى السياسي ليشملا كافة مناحي الحياة المجتمعية، اما القبول بحالة “يبقى الوضع على ما هو عليه” واما حصد الخيبة والانتهاء رجوعا الى ذات المربع ولسان الحال يقول “وكأنك يا بوزيد ما غزيت”؟
أولا فيما يخص الديمقراطية وما اذا كان المآل بعد التداعيات الكبرى المنفلتة للثورات والانتفاضات، هو التضحية بها لصالح أولوية “اعادة البناء”، فان المقاربة المعنية هاهنا ليست على النحو الذي يفترضه التساؤل وان كانت الديمقراطية في السنوات الخمس الأولى ستفسح في المجال أكثر لاعادة البناء.
ما نتصوره هو حدوث نوع من المواكبة تقوم خلالها الديقراطية بمحاولة مواكبة عملية اعادة البناء، من حيث ان الديمقراطية نفسها وآليات وأدوات ممارستها سوف تُكرس نفسها في المرحلة الأولى، كأولوية قصوى، لبناء أو استكمال بناء البنية التحتية للديمقراطية، من مؤسسات وتشريعات ومنظمات مجتمع مدني. ويمكن ان تسير هذه العملية بوتيرة متسارعة ويمكن ان تسير بوتيرة بطيئة تبعا للدعم والتسهيلات التي ستتلقاها من أنساق نظم ادارة الحكم الجديدة ومن مكونات المجتمع بالاجمال.
الى ذلك أيضا يتعين عدم اغفال قضية المصالحة الوطنية (Reconciliation)، بحسبان أهميتها القصوى وباعتبارها شرطا ضروريا “لتزييت” وتعبيد طريق التقدم الديمقراطي الحثيث، وتأمين انسيابيته بازالة كافة العراقيل والمعوقات التي أفرزتها الحقبة الماضية. وهذه مهمة أخرى سوف تستهلك وقتا معتبرا، ومخصوما بالضرورة، من وقت البناء الديمقراطي المؤسسي، لأنها سستتطلب جهودا مضنية لبناء الثقة واعدة رتق ما أحدثته التحولات المضطربة من ثقوب وتشققات وتصدعات غائرة وخطيرة في بنيان العلاقات المجتمعية والرأسمال الاجتماعي.
انما هذا لا يعني، ولا يجب أن يعني، بأي حال من الأحوال، القبول بتسويغات اطفاء جذوة النزوع الديمقراطي العام الذي أطلقه الشباب العربي الغاضب في الساحات وعلى شبكة التواصل الاجتماعي، تحت ذريعة الانصراف الكلي المجتمعي لأولوية “اعادة البناء”. فمثل هذه التأويلات والتخريجات الماكرة، يمكن أن تؤسس لحالة استبدادية جديدة تخلف سابقتها وتفوقها “فهلوةً” ونكبةً !.