في رواية «ليلة القدر» للطاهر بن جلون ترد فكرة طريفة غير مألوفة عن مستودع للكلام يلجه الناس للتزود بالكلمات، على طريقة التزوُّد بالطعام أو الشراب وما إلى ذلك. كان هذا المستودع بمنزلة «قاموس المدينة»، حيث ثمة رفوف كبيرة فوقها يافطات، كل يافطة تحمل حرفاً أبجدياً، والغريب أنه لا يأتي إلى هذا المستودع البُكم أو الذين يعانون فقراً في الكلمات، وإنما يأتي إليه أيضاً للتزود بالكلمات المعروفون بالكلام من دون أن يقولوا شيئاً مُفيداً، والثرثارون الذين تنقصهم الكلمات، ليأخذوا منها ما يلزمهم لعدة أيام أو أسبوع.
وفي المستودع أيضاً كلمات مُكدسة وقد علتها طبقة من الغبار لأنه لا أحد يستعملها، وكانت توجد منها أكوام تصل إلى السقف، للدرجة التي تجعل الزائر يتساءل عما إذا كان الناس لم يعودوا في حاجة إلى هذه الكلمات، أو أنهم أخذوها بصيغة نهائية وخزنوها عندهم.
لكن حتى لو لم نكن من هؤلاء الذين يذهبون إلى مستودع الكلمات هذا، ونشعر بأن احتياطي الكلمات لدينا كافٍ للعمر كله، فإننا نقع في حالات تهربُ فيها الكلمات منا، فنشعر حينها بأن الصمت يكاد يتحول إلى لغة، إلى وسيلة تعبير، لأن الكلمات أعجز من أن تنقل أو تصف ما نحن فيه.
الإيطالي ألبيرتو مورافيا في روايته «الاحتقار» وصف حالة مشابهة، سماها تحديداً حالة عجز، حالة صمت لا يُحتمل، مصنوع من كل ما كان يجب أن يُقال، حين يضغط الشعور بأن علينا أن نتكلم، وأن لدينا أشياء كثيرة نقولها، ومع ذلك نلزم الصمت، لا مع الشعور بالرضا، لأننا صامتون، بل مع ذلك الشعور بأننا صامتون رغماً عنا.
لا يحضرني الآن اسم الرواية ولا اسم مؤلفتها، ولكنها كاتبة ألمانية كانت تعيش في القسم الشرقي من برلين، وتصف فيها وقائع يوم واحد فقط من حياتها، يوم حافل لكنها تركز على التأملات الذاتية للبطلة، التي تقول الكاتبة انها تخفي خلف صمتها مقادير كبيرة من الكلام، لكنها آلت على نفسها ألا تتكلم. «آه لو انها تكلمت» – هكذا تقول الكاتبة بحسرة لتومئ لنا مقادير الأفكار والمشاهدات والانطباعات التي تختزنها هذه المرأة البسيطة، مع ما في هذه المقادير من شهادات على زمن عاشته وتعيشه، وما أكثر الناس مثل هذه المرأة الذين يملكون ما يقولونه، لكنهم لا يقولون.
على موقع «يوتيوب» أعجبني ما يشبه «الفيديو كليب» لقصيدة الراحل الكبير محمود درويش: «فكر بغيرك»، على خلفية صوت الشاعر وهو يلقيها بإلقائه المميز المعروف. اختار مخرج هذا العمل مقاطع للحالات المتناقضة التي يصفها الشاعر، وصولاً إلى قوله «وأنتَ تُحررُ نفسكَ بالاستعارات، فَكر بغيرك، مَن فقدوا حَقهم في الكلام». في المقطع الأول تظهر صورة لجانب من مظاهرة في أحد البلدان الديمقراطية، وفي المشهد الثاني تظهر صورة لسجين خلف القضبان، عقاباً له على مواقفه الاحتجاجية.
بدا لي هذا المقطع من قصيدة محمود درويش مُجسداً في تلك الصور تعبيراً بليغاً عن الفكرة أعلاه، حين تبدو الاستعارات ترفاً في مجتمعات يعزُ فيها القول.
3 ابريل 2012