المنشور

مفهوم المجتمع الدولي لدى واشنطن


…”اذا لم ينصاع العراق لمطالب المجتمع الدولي…”، و”اذا لم ينصاع نظام الخرطوم (السودان) لمطالب المجتمع الدولي…”، و”اذا لم تنصاع كوريا الشمالية لمطالب المجتمع الدولي…”، و”اذا لم تنصاع ايران لمطالب المجتمع الدولي…”، و”اذا….

عبارة تقليدية رتيبة وبليدة يحفظها عن ظهر قلب جميع العاملين في الشئون الخارجية للبيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية. وباتقان شديد يجيدون القائها بطريقة آلية وكأنها مضبوطة بالمقاس تماما على لحظات استدعاء اطلاقها. وهي عبارة يحرص كبار مسئولي الادارة الامريكية الحاكمة، بدءا من الرئيس وحتى الناطقين الرسميين باسم البيت الأبيض والخارجية الامريكية، ترديدها بعناية كي تستقر في اللاوعي السياسي العالمي ويصير أمر تلقينها للدول الحليفة والنصيرة لتُرددها بدورها وكأنها من نافلات القول.

هذا هو المفهوم الامريكي للمجتمع الدولي الذي يختزل دول وشعوب يقارب عددها المائتين، في الولايات المتحدة الأمريكية، أي أن المجتمع الدولي هو الولايات المتحدة والولايات المتحدة هي المجتمع الدولي، مع انه لا مساحتها الجغرافية ولا عدد سكانها يؤهلانها للتحدث باسم القارة الامريكية (أمريكا الشمالية والجنوبية والوسطى)، فما بالك باسم العالم!

مقاربة “المجتمع الدولي” أو “نظرية التحدث باسم المجتمع الدولي”، هي في الواقع تجلي آخر لفلسفة السيادة الكونية الامريكية التي أسس لها المؤسسون الأوائل للولايات المتحدة، ابتداءً من مبدأ مونرو الذي أعلنه الرئيس الامريكي جيمس مونرو في عام 1823 والذي جعل بموجبه قارة أمريكا اللاتينية، محظورة على كافة القوى الاستعمارية الاوروبية، وان الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة التي تملك حق التدخل والتصرف في شئونها. وقد دشن “مبدأ مونرو” بداية تطلعات وتطبيقات الهيمنة الامريكية على العالم الذي سيغدو كله – بعد ذلكم الاعلان –  ”مجالا حيويا” للمصالح والنفوذ الامريكيين. وقد توسع مفهوم هذا المبدأ في سبعينيات القرن العشرين الماضي ليشمل المنطقة العربية التي أدرجها النظام السياسي الامريكي ضمن “مجاله الحيوي” الذي لا يحق لا للسوفييت (آنذاك) ولا للأوروبيين أو اليابانيين أو غيرهم التدخل في شئونها باعتبارها منطقة نفوذ أمريكية مغلقة.

وكان الزعيم النازي أدولف هتلر قد طرح مطلع عشرينيات القرن الماضي النسخة الألمانية من نظرية “المجال الحيوي” حين أعاد تشكيل وتسمية الحزب النازي الألماني باسم “حزب العمال الألمان الأشتراكي القومي” (نازي بصورة مختصرة)، وذلك لاعادة بعث المانيا اثر هزيمتها النكراء في الحرب العالمية الأولى. تقوم نظرية “المجال الحيوي” الالمانية على أساس وحدة المانيا الكبرى والتوسع في مجالها الحيوي، أي ايجاد علاقة معقولة بين السكان والمجال الحيوي وذلك عبر القوة العسكرية الضاربة، فالرقعة الجغرافية الألمانية لم تعد تتناسب مع الاحتياجات الاقتصادية والسكانية والعسكرية، وانه ونظرا للزيادة السكانية الالمانية لابد من ايجاد مناطق توسع تناسب هذه المتطلبات الامنية والسكانية والاقتصادية، وهو ما دعا هتلر للمطالبة بضم النمسا على اعتبار انها المانية، وكذلك ضم السوديت (السوديت بالألمانية  Sudetenland “سوديتنلاند”، وباللغة التشيكية والسلوفاكية Sudety “سودتي”، وهو اقليم يقع الى الغرب من تشيكيا على الحدود مع المانيا)، على اعتبار ان سوديت تضم غالبية ألمانية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية حيث تم ترحيل معظم هؤلاء الى المانيا.

وتتقاطع نظرية “المجال الحيوي” مع المفاهيم المستجدة، نسبيا، التي ابتدعها وقدمها وتداولها رواد مدارس علم المعارف السياسية والعلاقات الدولية، وخصوصا منها المفهوم الذي شاع استخدامه في العقود القليلة الماضية وهو ما يسمي بالجيوبوليتيك أو الجغرافيا السياسية، والذي لا يعدو أن يكون، بحسب اعتقادنا، سوى مفهوم محسن وملطَّف لمفهوم “المجال الحيوي”.

ولقد فعَّلت الولايات المتحدة استخدام مفهوم “المجال الحيوي”، في ثوبه المتجدد “المجتمع الدولي” مع انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1990، حيث غدا “الملعب” العالمي “ملكا” لها دون منازع جدي، تسرح وتمرح فيه كيفما تشاء، وكان العراق العيِّنة الأولى له. وقد سهَّل الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسن للولايات المتحدة مهمتها بتسليمه لها بالامتياز الحصري في الانفراد بالاسرة الدولية والتحدث باسمها قاطبة. فيكفي أن يطلق أحد كبار مسئولي الادارة الامريكية عبارة “اذا لم ينصاع النظام “أ” لمطالب المجتمع الدولي…”، وما هي الا ساعات معدودات حتى يتلقفها الاعلام المعد لبيع البضاعة على المشترين المضمونين سلفا والجاهزين لشرائها ليس فقط لاستهلاكها وانما أيضا لاعادة تسويقها والافادة من فارق سعر الجملة وسعر المفرق!… وهكذا و”بضربة معلم” يتحول الموقف الامريكي سريعا الى موقف يمثل الاسرة الدولية قاطبة أو المجتمع الدولي كما يحلو للمسئولين الامريكيين تسميته.

وان حصل وتعذر على الولايات المتحدة تمرير هذه المنهجية البارعة، أي اضفاء الشرعية الدولية عليها من خلال الامم المتحدة ومجلس الامن تحديدا، فانها حينئذ تتوجه الى العواصم الاوروبية الغربية الحاكمة وتستميلها وتضمها اليها في تجريد حملة سياسية ودبلوماسية شعواء ضد الدولة الهدف، فتبدأ أوروبا تحركها، برسم الاشارات والتوجيهات الواردة اليها من واشنطن، بالتصريحات السياسية المعبرة عن الموقف الامريكي، فيتحرك البرلمان الاوروبي في ذات الميدان الذي افترشته سلفا المفوضية الاوروبية في بروكسل ممثلة في مفوضة السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي (حاليا كاثرين آشتون)، وتزيد على ذلك بريطانيا العظمى اعتبارا بخصوصية علاقتها التاريخية بالولايات المتحدة، فتبدأ حزمة العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية تترى الواحدة تلو الأخرى.

ولولا دبلوماسية القوة الناعمة التي تعتمدها واشنطن في علاقاتها الدولية وتبتز وترهب بها بقية الاسرة الدولية لما استطاعت واشنطن اقناع حتى الحلفاء بمقاربتها المخادعة “المجتمع الدولي”. فالمجتمع الدولي الذي تتحدث واشنطن باسمه لا يتجاوز حفنة من الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي عددها لا يتجاوز 15 دولة في حين ان التمثيل الحقيقي الأوسع نطاقا للمجتمع الدولي المتمثل في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تضم كافة الدول الأعضاء في المنظمة (192 دولة)، غير معترف به أمريكيا. ثم ان الذي يتحدث عن المجتمع الدولي لابد أن يعترف بمؤسساته الحاكمة ومنها محكمة الجنايات الدولية على سبيل المثال، والتي ترفض الولايات المتحدة التوقيع على معاهدة انشائها. فضلا عن علاقتها السلبية بعدد من المنظمات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة مثل منظمة التربية والعلوم والثقافة (يونسكو).

وأخيرا وليس آخرا أليس غريبا أن تبقى اسرائيل كل هذه السنوات الطويلة بعيدة عن “كرباج” المجتمع الدولي (الأمريكي)؟!