كثيرة هي المخاوف التي تنتاب أوساط المجتمعات المدنية المعاصرة في البلدان العربية التي شهدت صعود أحزاب وحركات الإسلام السياسي إلى السلطة بفضل الثورات الشعبية التي أطلقها الشباب العربي الغاضب ضد أنظمة الاستبداد والقهر .
في مصر على سبيل المثال، هناك مخاوف من إلغاء قانون الخُلْع وإلغاء نظام الكوتا النسائية البرلمانية، وهما من الإصلاحات التشريعية والاجتماعية النوعية المهمة التي أنصفت المرأة في بعض حقوقها التي كفلتها لها الرسالات السماوية والمواثيق والمعاهدات الدولية . وهناك خوف في الوسط الفني من أن يؤدي تولي جماعة الإخوان المسلمين وحزب النور السلفي السلطة، إلى انعكاسات سلبية على السينما والمسرح وأشكال الإنتاج الفني والثقافي في مصر كافة، وهو يجد تجلياته في الزيارة التي قام بها نقيب الفنانين للمرشد العام للإخوان المسلمين .
وفي تونس، حيث صار الإخوان المسلمون “حزب النهضة” على رأس الحكومة التونسية الجديدة بعد الثورة التي أطاحت نظام زين العابدين بن علي ويهيمنون على أغلب الحقائب الوزارية بعد فوزهم الساحق في أول انتخابات حرة ونزيهة تجري في تونس منذ الاستقلال، فإن هناك مخاوف مماثلة من أن يؤدي حكم الإسلاميين إلى تراجع سقف الحريات ومنها الحريات الاجتماعية والثقافية والشخصية، لاسيما تلك المتعلقة بالمرأة التونسية التي تعد أكثر النساء العربيات تمتعاً بحقوقهن “الجندرية” والاجتماعية والسياسية .
وكذلك الحال في المغرب حيث شكل الإسلاميون ممثلين في حزب العدالة والتنمية أول حكومة برئاستهم بعد فوزهم الصريح في أول انتخابات تُجرى هناك بعد التعديلات الدستورية التي تقدم بها العاهل المغربي وعُرضت على الشعب في استفتاء عام، وهكذا الأمر دواليك، في بقية البلدان المرشحة للدخول في “المعترك”، “الإصلاحي الدستوري” تحت ضغط عوامل التغيير المحلية والدولية .
فهل لهذه الهواجس والمخاوف من أساس يبررها ويصدّقها؟ بعض الممارسات التي أتت بها الأحزاب الإسلامية المنتشية بفوزها الباهر، وبعض التصريحات المتعجّلة التي أطلقها بعض رموز هذه الأحزاب، لاشك في أنها عملت على تغذية هذه المخاوف وأمدتها بالقرائن التي تحتاج إليها للتشكك في نوايا الممسكين الجدد بمقاليد الحكم .
ولعل أسطع مثال يمكن أن يسوقه المتشككون في نوايا الحكام الجدد دليلاً على ما يذهبون إليه، تلك الحملة الشعواء التي شنتها جماعات الإسلام السياسي ضد رجل الأعمال المصري المعروف نجيب ساويرس ورفع دعوى قضائية ضده بتهمة السخرية من المسلمين، مستندين إلى رسم فكاهي تناوله ساويرس على حسابه “تويتر”، نقلاً عن مواقع أخرى ويظهر فيه ميكي ماوس في شكل سلفي وحرمه المنقبة . ومواصلة للهجوم على الملياردير المصري فقد فزع وانضم إلى الدعوى المقامة ضده أكثر من عشرين محامياً مدعين بالحق المدني وتوجهوا يوم نظر الدعوى في محكمة جنح بولاق أبو العلا، إلى المحامين المترافعين عن ساويرس بالسب والشتم، ونعت أحدهم ب “المجرم”، لكن القضية انتهت بتبرئته من تهمة “الازدراء” .
إلى ذلك ازدادت المخاوف من جهات مجهولة إثر عملية تصفية عضو ائتلاف لجان الدفاع عن الثورة الناشط محمد جمال، ذبحاً، في الساعة الرابعة فجراً خلف دار القضاء العالي، أي على مسافة غير بعيدة من ميدان التحرير، حيث كان قبل دقائق بصحبة مجموعة من القضاة المعتصمين للترتيب لمسيرة كان مقرراً لها أن تتوجه يوم الاثنين 23 يناير/كانون الثاني 2012 للتضامن مع مطالب القضاة المعتصمين، وبحث إمكانية مشاركة القضاة في تظاهرات يوم 25 يناير، قبل أن يفاجأ المعتصمون بعودته بعد مغادرته المكان بدقائق منحوراً وينزف بغزارة من رقبته ثم يسقط وهو يشير بيده إلى ما خلف مبنى دار القضاء العالي ويفارق الحياة في الحال . وتزامن مقتل الناشط محمد جمال مع حادث سير غامض تعرض له قبل يومين من ذلك الناشط السياسي كريم أبوزيد عضو ائتلاف الثورة بمحافظة الغربية .
وفي الأردن عبّرت أوساط مختلفة عن مخاوفها وامتعاضها من قيام الحركة الإسلامية المعارضة بالتلويح بالعمل الميليشياوي بعد تنظيمها استعراضاً ميليشياوياً لمجموعة من الشباب معصوبي الرؤوس بشارات خُضْر تحمل عبارة “طفح الكيل” .
وفي ليبيا حيث أطاحت الميليشيات المسلحة التي تطغى عليها التوجهات الإسلامية “الجهادية”، فإن آلافاً من الليبيين محتجزون في سجون غير رسمية قدّرتها نافي بيلاي مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان بأكثر من 60 سجناً، وعدد المحتجزين المعلومين فيها لدى المفوضية بنحو 8500 معتقل بشبهة الانتماء إلى نظام القذافي . وبحسب المفوضية فإن الميليشيات التي تحتجزهم تمارس عليهم مختلف أصناف التعذيب، وأنها لا تعلم عن مصيرهم شيئاً .
لا شك في أن الإسلاميين المنتشين بانتصاراتهم “المظفرة” “سواء عبر صناديق الاقتراع أو عبر التمرد المسلح المدعوم من الناتو” هم اليوم في وضع يسمح لهم بالادعاء بأن لديهم تفويضاً من أغلبية الناس، وأنهم بالتالي ليسوا بحاجة إلى بقية مكونات المجتمع الأخرى على اختلافها . وهذا صحيح إلى حد ما . بل ونزيد عليه بالقول إنه وبرغم هذه المخاوف المبررة بصورة عامة، فإنه لابد من احترام إرادة الناس في نوعية التغيير الذي ينشدون، ومحتواه واتجاهاته . فكل شيء خاضع للحراك المجتمعي الذي حرك الجمود والركود السياسي الممتد لأكثر من ستة عقود . ثم إن إدارة الدولة تكاد تختلف جذرياً عن إدارة الحزب واقتصاد الحزب أو الجماعة، لأن قيادة الدولة تضع الممسكين بمقاليد الحكم فيها أمام المسؤولية الكاملة والمباشرة عن المجتمع بكامله ومقدرات البلاد بكاملها، وليس عن جماعة أو حزب أو اقتصاد حزب أو جماعة .
هي مرحلة انتقالية ولابد من القبول بمعطياتها ومخرجاتها الظرفية إذا كان للديمقراطية العربية الوليدة أن ترى النور وتتنفس الهواء الطلق لأول مرة، وتتطور بحكم الحراك المجتمعي الكلي .