ثمة جدال يحتدم على المستويين السياسي والاجتماعي على خلفية ما تسرب من أنباء عن «الموجة الثانية» من الحوار التي يجري الحديث عنها حاليّاً، والمتوقع انطلاقها قريباً (أحد الإخوة الحقوقيين يصر على تسميتها بالمفاوضات). وتتزايد التكهنات والمبالغات الصحافية التي لا يمكن الاعتداد بها عن هذه المسألة في ظل محادثات استكشافية أولية لا ترقى إلى درجة الحوار والمفاوضات، ناهيك عن عدم وضوح آليات وأبعاد هذا الحوار والمسارات التي يمكن أن يتخذها، بالإضافة إلى النقطة المفصلية في كل هذه العملية، وهي المتعلقة بالنتائج أو الحصيلة النهائية التي يمكن ان تتمخض عنها، وما إذا كانت قادرة على نزع فتيل الأزمة الراهنة، ووقف النزيف الذي يعاني منه البلد سياسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً وأمنيّاً.
في الواقع لا ندري ما إذا كان إعلان فكرة الحوار هذه التي جرى تسريبها عبر الصحافة بالتزامن مع ذكرى مرور عام على الحراك الشعبي في 14 فبراير/ شباط العام الماضي قد كان مجرد مصادفة أم تصرفاً مقصوداً لإيصال رسالة محددة إلى الداخل والخارج. وعموماً؛ فإن الإعلان من جانب السلطات الرسمية عن استعدادها إجراء جولة جديدة وجادة من الحوار مع القوى السياسية المعارضة، يكتسب أهمية لا يمكن أن تخطئها العين، كما يحمل هذا الإعلان بعض الحقائق القائمة على الأرض التي هناك من يجاهد مستميتاً لإنكار وجودها.
أولى هذه الحقائق أن الحراك الشعبي السلمي الذي أطلق قبل عام، ولايزال يتواصل على شكل فعاليات سلمية وراءه تيار شعبي عارم لا يمكن تجاهله أو إقصاؤه، مهما تطاول الوقت واشتدت كثافة الضغوط السياسية والاعلامية والأمنية. الأمر الذي يؤكد قوة الاستقطاب والقدرة على التعبئة في هذا الحراك، الذي مكنته من احتضان أطياف شديدة التنوع سياسيّاً واجتماعيّاً ومن كل الفئات العمرية من الرجال والنساء والشباب.
الحراك الشعبي الذي جاء في سياق التظاهر السلمي الذي يكفله الدستور، وتؤكد عليه المواثيق الدولية التي أعلنت البحرين التزامها بها، ما كان له أن يطوي تحت جناحيه كل هذا الزخم السياسي والكم العددي لو لم يكن لصيقاً بهموم الناس وبمطالبهم العادلة، ولو لم يكن يعكس طموحاتهم في حياة حرة كريمة وعادلة. ليكون بذلك جسراً للعبور بالوطن وبكل المواطنين على مختلف انتماءاتهم السياسية والعقائدية والمذهبية، إلى رحاب التعددية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
والحقيقة الثانية أن هذا الحراك الشعبي قد جاء في سياق الاحتجاجات الجماهيرية التي هبّت مع موجة الربيع العربي واجتاحت العديد من العواصم العربية، إلا أنه لا يمكن إغفال خصوصية هذا الحراك، كما لا يمكن إنكار ان أساس وجذور هذا التحرك هي داخلية بحتة، تكمن في تربة البحرين التي كانت مواتية وتنتظر اللحظة التأريخية. ما يعني أن تحرك الناس لم يأتِ هكذا بغتةً ومن دون مقدمات، بل إن إرهاصاته كانت تتجمع منذ ما يزيد على العقد، مع تكشف النواقص في التجربة السياسية الإصلاحية. وبعد أن سُدّت كل الآفاق في وجه الحلول السياسية التي كانت تدعو وتطالب بها القوى المعارضة، وكانت للأسف تقابل بتجاهل تام، وبإصرار غير مفهوم على رفض أية خطوة إيجابية من قبل الدولة. وهو ما أبقى الكثير من الملفات الشائكة التي تحمل بذور الانفجار مفتوحة وعالقة من دون حل، الأمر الذي صار معه الوضع السياسي والاجتماعي أكثر ركوداً وتأزماً وزاد بالتالي من حجم العقبات التي تقف في وجه تطور الواقع السياسي. وهذه جميعها معطيات تمنح الحراك السياسي مشروعية ليس بمقدور أحد الطعن أو التشكيك بها، من حيث الولادة والأهداف.
نحن هنا نتحدث عن الحراك السلمي في خطه العام ومطالبه العادلة وشعاراته المتزنة، والتي تتمحور حول مسألتين أساسيتين: المملكة الدستورية وإصلاح النظام السياسي، اللتين تعكسان جوهر الأزمة في البحرين، وأي خروج أو انحراف عن هاتين النقطتين يجب عدم سحبه أو تعميمه على هذا الحراك أو تحميل وزره للمعارضة السياسية، مع الإقرار بأنه ليس هناك أي حراك جماهيري بهذا الثقل يمكن أن يكون خالياً تماماً من الأخطاء أو التجاوزات مهما صدقت النوايا ودرجة الحرص على تفادي هذه الأخطاء. نقول ذلك من باب المسئولية الوطنية والأخلاقية والإنسانية، التي تفرض في المقابل على جميع الأطراف عدم تجاهل أو نسيان الخطايا التي جوبهت بها تلك الأخطاء، والتي شكلت علامة كارثية فارقة في حياة هذا الوطن، وصارت صفحات مشوهة في تاريخه بعد أن صارت عنواناً صارخاً على انقسام المجتمع البحريني وتمزقه طائفيّاً وبلوغه مستوى لم يكن لأحد أن يتصوّر يوماً حدوثه، من إزهاق أرواح وقطع أرزاق وانتهاك حرمات. ومع كل هذه المصائب نحن نطالب هؤلاء الناس بضرورة التسامي فوق جراحهم ونسيان أوجاعهم المريرة، من أجل مصلحة الوطن ووحدة الشعب في هذه اللحظات الحرجة والتاريخية، التي تتطلب من الجميع القيام بمسئولياته الاجتماعية والوطنية، لإخراج الوطن من محنته وتجنيبه ويلات الانقسام الأهلي والنهوض به مجدداً. وسوف لن يكون ذلك ممكناً من دون توافر الإرادة والقناعة الناضجة لدى جميع الشركاء في المصير الواحد والمستقبل الواحد، لأن مستقبل البحرين رهن بتماسك المجتمع ووحدته، لذلك؛ علينا عدم الالتفات أو الاستغراق في بعض المهاترات التي تستنزف الجهود والطاقات، من قبيل الحديث عن شروط تسبق أي حوار أو تقديم اعتذارات، وغيرها من مواقف لا تقنع حتى أولئك الذين يطلقونها!
والحقيقة أننا أمام حالة سياسية ومجتمعية عصية على الفهم والتفسير، تريد أن تجعل من الضحية ذئباً مفترساً، إذ كيف يجرؤ أحد على الاستهانة بأوجاع وآلام الناس وتجاهل حقوقهم إلى هذا المستوى الذي لا يليق بمن يدعي احتكار الوطنية، والحرص على مصلحة الوطن دون غيره من القوى السياسية. مع الإصرار على المضي في سلوك الإقصاء والتهميش، وامتهان خطاب تحريضي متربص تحركه الغرائز الطائفية المتخلفة، لا مكان فيه للعدل والإنصاف، وهو خطاب مشحون بالظلم والجور، يستهدف إخوة وشركاء في الوطن والدين. فهل يدرك هؤلاء معنى إبقاء الصراع الطائفي قائماً ومفتوحاً بهذا الشكل الذي لا مجال فيه لحوار، ولا مكان فيه لمنطق وافتقار أطرافه إلى الحد الأدنى من الثقة تجاه بعضهم بعضاً، وغياب أي حل منصف أو عادل. فليس لهذا الوضع المقلق سوى طريق واحد؛ هو دخول البلاد في كابوس مرعب -لا قدر الله- يهدّد بجعلها دولة فاشلة على كل المستويات.
إن هذا الحراك الشعبي لم يكن ظرفيّاً، بمعنى انه ليس وليد حادث جزئي منعزل عن سياق الأحداث الكبرى في هذا الوطن. كما انه ليس انفعاليّاً خالياً من أي وعي أو من دون هدف. ولذلك فإن زخمه لم يتوقف، والتفاعل معه لم يضعف بمرور الوقت، بل رأينا مع تطور الأحداث أن «حمولته» السياسية والاجتماعية تزداد ثباتاً وقناعة به على رغم كل التضحيات المقدمة، وحجم الأذى الذي يكابدونه.
صحيفة الوسط البحرينية – 09 مارس 2012م