المنشور

هل العولمة أمريكية فقط ؟


هذا سؤال مثار، وكثيراً ما يجاب عليه بالإيجاب، فكثيرة هي الكتابات التي تساوي العولمة بالأمركة.. وهذه المساواة بين الأمرين تنطلق في حالات عديدة من ردود فعل مشروعة تجاه ما نعيشه من غلبة لنمط الحياة الأمريكي على النمط المُعَوْلم الذي يجتاح العالم، وإذ تقترن هذه الغلبة بالشعور العميق بالمظالم التي تسببها السياسة الخارجية الأمريكية في مناطق عدة من العالم، خاصة في عالمينا العربي والإسلامي، فإن الأمر يصبح مثل البداهة التي لا ترد: العولمة هي الأمركة.
 
لكن هذه البداهة بحاجة إلى فحص وتحليل. هل أوروبا أقل اهتماماً بالعولمة من الولايات المتحدة الأمريكية، أليست الموجات الاستعمارية الأولى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر موجات أوروبية: فرنسية وبريطانية وهولندية وروسية وإيطالية.. إلخ، وأليست هذه الموجات شكلاً مبكراً، أو جنينياً إن شئنا، للعولمة أدت فيما أدت إلى خلخلة البنى الاجتماعية التقليدية في البلدان الفقيرة النائية، وفرضت عليها أنماط إنتاج وسياقات ثقافية واجتماعية «دخيلة» عليها إذا استعدنا مصطلحات المراحل السابقة.
 
ولماذا العودة إلى التاريخ، تكفي نظرة متفحصة للحاضر: هل فرنسا اقل عناية بنشر الثقافة الفرانكفونية في النطاقات الجغرافية التي تستطيع إليها سبيلاً من عناية الولايات المتحدة بنشر الانجلوساكسونية وحصراً نمط الحياة الأمريكي منها.. هل اليابان أقل عناية من أمريكا وأوروبا في السعي للمنافع الاقتصادية في مناطق مختلفة من العالم حتى لو لم تسيّر إلى تلك المناطق بوارج حربية وحاملات طائرات؟ هل روسيا التي امتد نظامها السوفييتي في آسيا الوسطى والقوقاز وضفاف البلطيق وفي المدى السلوفاكي القريب: أوكرانيا وروسيا البيضاء، والأبعد: التشيك وسلوفاكيا وبلغاريا ويوغسلافيا قبل أن تتفكك إلى دول وجمهوريات متحاربة معيدة «البلقنة» الدامية إلى الحياة، وأبعد من ذلك: المجر ورومانيا وشرقي ألمانيا، هل كانت روسيا السوفييتية وما بعد السوفييتية وما قبل السوفييتية عندما كانت محكومة من قياصرة بطرسبورج أقل اهتماماً ببسط نفوذها في العالم والتمدد حتى المياه الدافئة، يوم كان القياصرة المتحلقون حول المدافئ في صقيع قصر الشتاء يحلمون؟!
 
ولكن ثمة أسئلة أخرى لا تقل أهمية: هل الأدب المنتج في أمريكا اليوم هو أدب أمريكي صرف.. ماذا عن الأدباء الأمريكان المنحدرين من جذور زنجية أو صينية أو لاتينية أو سواها.. هل ما تقدمه المختبرات الأمريكية من اكتشافات وتقنيات هي اكتشافات أمريكية صرفة، ما الذي يفسر أن عالم الكيمياء المصري الأصل زويل ينال جائزة نوبل في الكيمياء باسم أمريكا، وما الذي يجعل اللبناني أمين معلوف مقروءاً بالفرنسية قبل أن تترجم رواياته، وهو العربي المولد والنشأة والتجربة، إلى العربية؟!
 
ماذا نقول عن كاتبة ولدت في فرنسا من أبوين جزائريين أخذت منهما كل جيناتها الوراثية حتى لو لم تنطق بالعربية، ثم انها في صباها هاجرت إلى أمريكا وفيما بعد أصبحت كاتبة بالانجليزية: هل هي كاتبة عربية.. أم فرنسية أم أمريكية، حين كتبت ترصد سيرة سلالتها من صحراء الجزائر حتى باريس حتى أمريكا. كم في العالم اليوم من نماذج مثل هذه الشابة الموزعة على ثلاث قارات، على ثلاث ثقافات وحضارات.