لمعرفة إلى أي مدى يمكن فيه توظيف ما تدعى بالعلوم الانسانية في هندسة الأذهان وتكييفها لقبول الأمر الواقع في مجتمع من المجتمعات تحسن العودة إلى تجارب المجتمعات المتطورة في الغرب، التي بلغت فيها مناهج ومقررات تدريس هذه العلوم مدى متطوراً بالمقارنة مع الحال في بلداننا النامية، فحين اندلعت حركة الشبيبة والطلبة في فرنسا والبلدان الأوروبية الأخرى في الستينات الماضية، كانت نظم التعليم الجامعي والتعليم العام أحد مواضع انتقاد هذه الشبيبة، وأحد بواعث التحرك الطلابي المتمرد على الواقع، بما في ذلك على النظام التعليمي الصارم.
يومذاك كتب روجيه غارودي كتابه «البديل» الذي كان بمثابة دليل للشباب والطلبة في تحركاتهم، والذي رصد فيه الظواهر المستجدة التي أفرزت هذه الظاهرة الجديدة، وفيه شخّص حقيقة ان المعرفة التي تقدم للشبيبة تخفي الواقع بدلاً من ان تكشفه. وفي حينه، أيضاً، جرى التركيز على ان «العلوم الانسانية» أي تلك المعنية بدراسة المجتمع والانسان تعد حالا نموذجية لدراسة مدى التزييف الذي تتعرض له المعرفة.
يذكر التاريخ أن طلاب علم الاجتماع في جامعة امستردام نظموا محاضرة بعنوان «هل ينبغي ان يكون علم الاجتماع علماً انسانياً؟!» خلصوا فيها إلى ان علم الاجتماع وكذلك الاقتصاد السياسي وعلم النفس ليست علوما انسانية اذا ما أخذت بعين الاعتبار الطريقة التي تدرّس بها على وجه العموم في الجامعات، وإنما هي محض توابع فقيرة لعلوم الطبيعة، فعلماء الاجتماع وعلماء النفس ينظرون بوجه عام الى الكائنات الانسانية نظرتهم الى مستعمرة من الجرذان في محاولتهم تحديد سلوكها وقياسه، كل ما هنالك ان درجة أعلى من التركيب أو التعقيد تبرز على مستوى المجتمعات الانسانية أو الأفراد، وعليه فإن العلوم المسماة بـ «الانسانية» تستخدم نفس منهج علوم الطبيعة، ولها بوجه خاص غرضها نفسه: ً«التحكم بالظاهرات التي هي هنا بشر»! على ان ما طرحته الشبيبة في عام 1968 لم يبدأ بتحركها يومذاك ولم ينته عندها، انه أمر سابق له بكثير وأمر لاحق له، وما زال قائما حتى اليوم وسيستمر في المستقبل كذلك.
وهناك مذكرة تعود للستينات حول هذا الموضوع لو قرأها المرء اليوم لظن انها كتبت البارحة، حين تذهب الى ان علم الاجتماع المطبق على الدعاية هو تقنية تحكم وتكييف، والى ان الخطط التي اعدها وزير دفاع الولايات المتحدة يومذاك، روبرت ماكنمارا، لمكافحة ثوار امريكا اللاتينية تحت اسم «مشروع كاملوت» قدمت للجمهور على انها «برنامج دراسات سوسيولوجية» حتى علم النفس نفسه لم ينجُ من هذه التهمة حين جرى التساؤل عما إذا كانت وظيفة المشتغلين فيه تتجاوز التعاطي معه بوصفه أداة تكيف مع نظام استلابي في ذاته.
وليست المصادفة وحدها ما يفسر ان حركات التمرد الطلابي تلك قد انطلقت من كليات علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة، فحجم النفاق في المناهج التربوية فيها يبدو فاضحاً ومحرضاً على الاحتجاج، حين تصطدم بتطلعات الأجيال الجديدة نحو منظومات قيم وأفكار جديدة اكثر اتساقا وصدقية، من تلك السائدة التي ترمي الى تكريس واقع فاسد وتأبيده، أو إطالة عمره ما أمكن.
23 فبراير 2012