عندما أشعل محمد البوعزيزي النار في نفسه في رمزية بالغة العظم والدلالة اختزلت كل أكوام القهر والاستغلال والاستعباد المتراكمة لدى غالبية طبقات وفئات المجتمعات في عالمنا العربي، وهي الشرارة التي أفضت، كما صار معلوما، الى ثورة شعبية عارمة اطاحت النظام البوليسي الحديدي في تونس، قبل ان تنسج ذات الفئات والطبقات المغبونة والمهمشة في المجتمع المصري على منوالها وتطيح الرئيس المخلوع حسني مبارك – عندما حدث كل ذلك ومن ثم توالت تداعيات هذين الحدثين الكبيرين على امتداد الساحات العربية، لم يكن يدور بخلد الكثيرين المتتبعين لشئون المنطقة العربية، ومنهم على وجه الخصوص النخب السياسية والثقافية، ان يصطدم التغيير المنشود والمنتظر منذ نيف وخمسين عاما باشكالية التضاد المصطنع موضوعيا وذاتيا بين الحرية والهوية .. ومتى؟ .. في “الحصة التجريبية” الأولى من المرحلة الانتقالية التي لم تكد نفسها قد بدأت بعد!
لقد بدا الجميع وهم ينشدون التغيير وينتظرونه بفارغ الصبر، متفقين على نيل الحرية التي حُرموا منها طوال نصف القرن الماضي باعتبارها مفتاح الحلول لمشاكل مجتمعاتهم، فاذا بهم يجدون أنفسهم أمام من يوقفهم ويصدمهم بوضع الحرية قبالة الهوية وتقديم الأخيرة على الأولى، ما أفسح في المجال لفتح الباب على مصراعيه أمام حدوث ما يشبه الانفجار الانشطاري للهويات الكلية وتفريعاتها.
ولكأنما بعض القوى الاجتماعية، المؤدلجة والمسيسة بالضرورة، سواء بخلفيات وواجهات دينية أو وضعية، فجأة اكتشفت ان “هويتها” صارت مهددة من جانب الحرية التي فُك أسرها بعد “اعتقال غير محدد المدة”، حتى أضحى الجميع متوجسا وخائفا على “هويته”، أكانت عرقية أو دينية أو طائفية أو مذهبية أو…أو… وذلك في ظل عدم وضوح الرؤية وعدم التيقن فيما ستؤول اليه النقلات والتحولات الفجائية والداهمة من نتائج وتبدلات غير واضحة المعالم بعد، فطفق الفرقاء جميعا يرتدّون تباعا باتجاه “هوياتهم” ويتخندقون خلفها ويفزعون ليس اكتفاءً بالدفاع عنها وحسب، وانما بشن الهجمات الضارية على الهويات الأخرى التي أصبحت “فجأة” خطرة ومهدِّدة “للهوية الأم” أو لأيٍ من تفريعاتها المُنشأة تواترا عبر الزمن!
فهل هنالك بالفعل تضاد بين الهوية الحرية؟
نظريا فان الحرية يُفترض ان تفتح وتوفرمناخات مواتية لكل الهويات بلا استثناء لأن تعبر عن ذواتها، بما يشمل ذلك مصالحها وتطللعاتها التي ظلت حبيسة “حالة الأمر الواقع” (Status-quo). وبهذا المعنى يبدو التضاد الناشب حاليا بين دعاة الحرية ودعاة الهوية، مفتعلا الى حد ما، من الناحية الموضوعية على الأقل، خصوصا بين الحرية وبين الثقافة العربية الاسلامية التي تحاول أطراف على جانبيهما النفخ فيه وتعظيمه وتهويله بطريقة تشي بأن ألأطراف الفزعة من الحرية قد تلبستها “حالة الأمر الواقع” فتآلفت معها حتى صارت تخشى مما تعتبره تيها مجهولا رغم تيقنها (وليس ايمانها على ما يبدو) بحتمية سطوع فجر الحرية.
ولكن من الناحية العملية فان تفريع الكليات، من القضية الكبرى وهي هنا الحرية الى قضية فرعية مثل الهوية في الحالة التي نحن بصددها، ليس بدعةً أو أمرا مستهجنا على أية حال، بقدر ما هو شكل من أشكال التمظهرات الاشكالية لمحنة التغيير في مجتمعات عربية تنوء بأحمال ثقيلة من الموروثات المتفاوتة المفاعيل والتأثير.
فهل يعد هذا مدعاة للتشاؤم حسبما تذهب نظرة عدد غير قليل من المتشائمين الذين جزعوا على ما يبدو من الصعود اللافت والفجائي لقوى التشدد والأصولية المستفيدة من المناخات الجديدة التي أشاعتها موجة التحولات الكبرى التي تجتاح العالم العربي والتي تتصدر بالمناسبة الواقفين في طابور اثارة فزاعة الحرية ووضعها في خصام وتضاد مع الهوية؟
واستطرادا، لربما قرأنا أيضا في ثنايا نظرات بعض ذلكم البعض المتشائم اعتقادا مضمرا بأن الحركات الاصولية المتشددة سوف تهيمن على المشهد السياسي في العالم العربي لبضعة عقود قادمة قبل ان تعود المجتمعات العربية للاستفاقة ثانيةً وتحزم أمرها وتحسم خيارها نحو بناء دولة مدنية معاصرة قوامها القانون والنظام واحترام الآخر المختلف.
وهو منظور مغري كما ترون اذا ما أخذنا بعين الاعتبار المخرجات الأولى التي تطالعنا بها المشاهد الانتقالية الجارية على الأرض في بلدان التغيرات الكبرى، خصوصا مصر وتونس، والتي توفر صورة، ولو مجتزأة، للملامح الأولى للمجتمع العربي ما بعد الانتقالي.
ومع ذلك، ورغم جدية مثل هذا المنطق، الا انه يظل قاصرا عن الاحاطة بكامل عناصر “النموذج” السياسي-الاقتصادي-الثقافي قيد التشكل والتبلور، على الاقل في الساحات العربية التي تعتبر مركز الثقل الاساسي لحركة التمدين والتحديث في عالمنا العربي.
ويكمن قصور ذلكم المنظور المتشائم بالنسبة لآفاق التحولات الكبرى الحادثة اليوم في الاقليم العربي، في توقفه عند “الصديد” الذي عادة ما يخرج في أعقاب فقء القرحة وعدم تمعنه وتفحصه لمغزى وأبعاد الحراك السياسي والثقافي النوعي وغير المسبوق الذي تمور به الساحة السياسية والثقافية في مصر على سبيل المثال، والذي ينبىء – بموازاة المنظور التشاؤمي سالف الذكر – بولادة جديدة لمصر وما أدراك ما مصر، من حيث هي مركز الثقل الحضاري العربي!
26/08/2011