حين التبصر في أمر كتابة تاريخ بلداننا العربية، خاصة منها تلك التي شهدت تبدلات في أنظمتها السياسية عبر ثورات أو انقلابات وما إليهما، سنجد أن كتابة هذا التاريخ تعاني من معضلة حقيقية.
فمازال هذا التاريخ يقدم بصورة انتقائية أو أحادية، تتسق مع ما يمكن تسميته الرواية الرسمية، وهي رواية لا تتطابق، بالضرورة، مع الحقيقة التاريخية، وإن تقاطعت معها في بعض الأوجه، كما أنها لا تتسق مع التحولات الكثيرة الجارية في بلداننا ومن حولنا، وبالتالي فنحن لسنا إزاء تاريخ واحد، وإنما إزاء عدة تواريخ، ولسنا نعني هنا تعدد التواريخ بتعدد الوقائع، وانما تعدد القراءات التاريخية للواقعة نفسها، وهو تعدد قد يبلغ حد طمس الواقعة ذاتها من قبل بعض من يكتبون التاريخ.
التاريخ ليس ملكاً لحزب أو جهة من الجهات أو سلطة من السلطات، وإنما هو حق مشاع للجميع، وبالتالي فان هذا التاريخ يحتمل، لا بل يجب أن يحتمل، المقاربات المختلفة، المتعددة، التي حتى لو لم تغطِ الحقيقة كاملةً، فانها تجعلنا في منطقة أقرب إليها، بالقياس إلى ما لو اعتمدنا قراءة واحدة، هي القراءة الرسمية.
نحن، معشر العرب، في حاجة إلى نظرة جديدة في التعاطي مع هذا الجانب، تتسع لتشمل مختلف المراحل والوقائع التي باتت تاريخاً، مع التوقف عند المساهمات المتعددة لمختلف القوى في صنع هذا التاريخ، الذي هو معطى جماعي، وليس حيزاً ضيقاً خاصاً بفئة من الفئات أو فرد من الأفراد.
ويتطلب هذا الاعتراف بالتاريخ بوصفه الرافعة أو القاطرة التي أخذتنا إلى الراهن، لذا يبدو منطقياً أن نطالب بأن نرى مقررات التاريخ في مناهجنا الدراسية وقد صيغت بروح أخرى وبرؤية أكثر شمولية وموضوعية، وأن يصار إلى تعريف الأجيال الجديدة بالتاريخ الذي صنعه أسلافهم والذي في نتاجه تشكلت صورة بلداننا اليوم.
معضلة الأحادية الفكرية والثقافية والسياسية التي يجري فرضها قسراً على الأفراد والمجتمعات تجد لها تجليات صارخة أيضاً في التعاطي مع التاريخ وكتابته، حيث يجرى إقصاء صفحات أو جوانب منه، لصالح تسييد نظرة بعينها.
في اللغة الروسية تعبير جميل على صلة بالأمر، يصف الصفحات المقصاة من التاريخ بـ «البقع البيضاء»، أي تلك التي بحاجة لمن يملأها بالقول، عن حقيقة ما جرى في المراحل التاريخية التي ترمز لها هذه البقع، التي جرى التواطؤ على السكوت عنها.
نحن في أمس الحاجة إلى جهود كبيرة في كتابة تاريخنا، بشكل يليق بكل ما في هذا التاريخ من ثراء وغنى بالوقائع والدروس لبلوغ ما يمكن وصفه بإعادة تشييد ذاتنا الوطنية الجماعية، وهذا التشييد يتطلب الاعتراف بالتنوع الذي يسم مجتمعاتنا، ليس فقط بهدف التصالح مع هذا التاريخ، وإنما بهدف التصالح مع الذات الجماعية، خاصة في المجتمعات التي شهدت أو تشهد انقساما على نفسها، كما هو حالنا الآن في البحرين، فمثل هذا التصالح ضروري لبلوغ ما هو أهم، أي المصالحة الوطنية، فما أسهل المكابرة والتحصن في خندق يواجه خندقاً آخر، ولكن هذا الطريق السهل هو طريق الخراب، بينما يؤدي الطريق الآخر، الصعب، إلى باب النجاة.