لم يحدث في تاريخ المنطقة العربية الحديث أن حظيت قضية بمثل هذا الاهتمام والتكالب والتداعي والمتابعة وتخصيص الموارد، كما تحظى به اليوم القضية السورية التي تحولت الى هدف مركزي في كل التحركات السياسية والدبلوماسية والعسكرتارية للقوى الاقليمية والدولية.
حتى قضية الغزو العراقي لدولة الكويت الشقيقة في الثاني من اغسطس 1990، وبرغم القاء الولايات المتحدة الامريكية بكل ثقلها في “معركة” التخلص من نظام صدام حسين، الا أن اهتمام الجامعة العربية بهذه القضية (قضية الغزو العراقي)، على أهميتها العظمى، لم يكن بنفس المستوى من الحماس والدأب والمثابرة والمتابعة الماراثونية الحثيثة الذي تلقاه اليوم “القضية” السورية!
بل وحتى القضية الفلسطينية لم تحظ، وهي في أوج الاحتضان والرعاية العربية التامة لها، بكل هذا الاهتمام والجهد الاستثنائي المكرس تماما والمسنود بمختلف أدوات القوة والدعم والاسناد الذي تحظى به القضية السورية. فلم تكن القضية الفلسطينية لتحظى بأكثر من اجتماعات موسمية تقتصر على القمم “البيانية” الرتيبة والاجتماعات الاستثنائية التي تُعقد اكراها بعد اضطرار الاعلام الحكومي العربي لمجاراة الشارع العربي على استحياء في التعبير الشكلي والجزئي عن امتعاضه واستيائه من الموقف الرسمي العربي المتفرج!
فلقد تم تكريس مؤسسات الجامعة العربية ووقت وجهد طاقمها لمتابعة “القضية” السورية أولا بأول وبسرعة غير عادية، ووضعت مستويات صناعة القرار فيها في حالة انعقاد شبه دائمة وتم اتخاذ المواقف والقرارات “المناسبة” بصورة درامية مدهشة!
الهدف من كل هذه الجهود والتحركات المواظبة والمثابرة، المنسقة اقليميا ودوليا على نحو بديع ومبهر، أصبح واضحا وضوح الشمس بعد أن صار معلنا من دون أية مواربة وعلى رؤوس الأشهاد.. وهو اسقاط النظام السوري واحلال نظام آخر بديل متفق عليه سلفا.
الرئيس الامريكي باراك أوباما صار لا يفوت فرصة الا وشدد فيها على ما أسماه “حتمية سقوط النظام السوري”. وعلى منواله ينسج الرئيس الفرنسي نيكولا سركوزي ووزير خارجيته ألان جوبيه اللذان يبدو انهما فرَّغا وزارة خارجية بلديهما للتركيز على انجاز هذا الهدف. وكذلك يفعل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ووزير خارجيته وليم هيج. وكانت الجامعة العربية قد قفزت بدورها الى هذا الاستهداف العلني والصريح بمطالبتها الرئيس السوري بالتنحي عن السلطة.
المطلوب اذن هو رأس النظام والنظام نفسه وليس الديمقراطية وتحرر الشعب السوري. ومن أجل هذا الهدف، أصبح واضحا ان دماءا سورية غزيرة سوف تسفك وعشرات آلاف الانفس ستزهق وأضعاف أضعافهم سوف يصابون ويشردون وأمهات سوف تثكل وأبناء سيُيَتّمون.
انهم يريدون اعادة سوريا الى العصر الحجري كما قال جيمس بيكر وزير خارجية أمريكا ابان رئاسة جورج بوش الأب يوم أن التقى طارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقي آنذاك في أحد فنادق جنيف عشية شن الحرب على العراق في 16 يناير/كانون ثاني 1991. الرئيس أوباما أصبح يكررها دائما “ان سقوط النظام السوري حتمي”! أي اننا مصممون على اسقاطه بأي ثمن.
وكله من أجل عيونك يا اسرائيل التي جندت كل أوراق أوليغارشيتها اليهودية عبر العالم من أجل التخلص من النظام الذي سبب لها صداعا كبيرا بتحالفاته الاستراتيجية ودعمه ورعايته لكافة القوى المقاومة لاسرائيل. وهي فرصة لطالما انتظرتها ولن تفوت الفرصة لاستغلالها.
والحال انه وبسبب هذا الاندفاع المحموم والتعجل من أجل انجاز “المهمة” وتحقيق هدفها المنشود، فلقد تم الزج بثورة الشعب السوري التي بدأت سلمية راحت دوائر مساحتها تتسع رويدا رويدا من جمعة الى جمعة مع انخراط مدن ومناطق وفئات مجتمعية جديدة مترددة فيها، تم الزج بها في العسكرة وتوريطها في متاهات ذات السناريو الليبي على أمل خفره بقرار دولى من مجلس الأمن الدولي، من دون حساب لأية معوقات يمكن أن تعترض طريق هذا السناريو المرسوم أو بالأحرى المنسوخ بالتمام والكمال دون “ابداع”، من السناريو الليبي الذي نجح معدوه ومخرجوه ومنفذوه في تحقيق هدفهم بالتخلص من حكم عائلة القذافي، ولكن الذي بدأت أيضا مفاعيله الكارثية تطل برأسها على مستقبل الاستقرار ووحدة التراب الليبي. لقد ارتكب بعض المعارضين السوريين المقيمين في الخارج أخطاءً فادحة بتهافتهم ودفعهم المتحمس والمتعجل لخيار عسكرة الثورة، فكان لابد وأن تفقد الثورة السورية الكثير من أوراقها، وكان لابد وأن ينتهي بها هذا المآل الى الحرب الأهلية التي يختلط فيها الحابل بالنابل.
وأما التحالف الدولي لاسقاط النظام السوري بزعامة الولايات المتحدة، فسوف يضطر بعد اخفاقه في اضفاء شرعية التدويل على القضية السورية بعد الفيتو الصيني الروسي المزدوج (للمرة الثانية) فسينتقل من الخطة “أ” الى الخطة “ب”، من اسقاط النظام عبر الحرب العلنية الى محاولة اسقاطه بواسطة الحرب السرية، وان تعذر فسيتم العمل على ارهاقه واضعافه وشل حركته بهدف اخراجه من حالة التأهب والاستعداد الدائمين للمجابهة مع اسرائيل وحلفائها الى حالة الانشغال الأهلي الداخلي الخالص وبضمنها بطبيعة الحال الاقتتال طويل الأمد الذي سيحيل سوريا الى حالة جزائرية (أو عراقية) يرفض فيها حزب البعث العقائدي، كما رفضت جبهة التحرير الوطني الجزائرية، الاستسلام لعناصر التمرد المسلح، فيتحول الأمر الى حرب عصابات مسلحة تشنها ميليشيات تتمتع بدعم اقليمي ودولي، سيستنزف خلالها الطرفان نفسيهما ويرهقان بعضهما بعضا الى أن يتحول التمرد المسلح الى جيوب ما سيُصَعِّب عليه مهمة الحفاظ على الكيان بسبب صعوبة توفر المأوى التضاريسي المناسب كما في الحالة الجزائرية.
اسرائيل طبعا سيغضبها التحول الغربي من الخطة “أ” الى الخطة “ب” وستثور ثائرتها وتحتج على هذا الطرف أو ذاك ولكن من دون طائل، فما باليد حيلة في ظل تمسك الصين وروسيا بموقفيهما الذي ينطلق في واقع الحال من تحصين نفسيهما أكثر منه حماية النظام السوري، من حيث أن “روشتة” “الخريف العربي” يمكن نقلها للتربة الصينية والتربة الروسية، كما أفصح عن ذلك مؤخرا بصورة صريحة لا لبس فيها القطب الجمهوري البارز ومنافس الرئيس أوباما في انتخابات الرئاسة الامريكية السابقة جون ماكين خلال تواجده في مدينة بنغازي الليبية.