لماذا تتقدم الهند اقتصادياً وتكنولوجياً دون أن تتخلى عن خصائصها الثقافية والروحية، وثمة سؤال آخر لا يقل أهمية، طالما نحن بصدد الاستشهاد بالهند بالذات، يتمحور حول قدرة هذا البلد، المستعمرة البريطانية السابقة، شأنها شأن الكثير من بلداننا العربية على أن يقيم نظاماً ديمقراطياً ممتداً منذ الاستقلال حتى اليوم، وينجح في اختبارات الديمقراطية المتكررة، دون أن تخرج عن مسارها في مطلق الأحوال، ونخفق نحنا في أول اختبار للديمقراطية؟
لماذا تنجح التنمية والديمقراطية بتلازم ملفت هناك، وتخفق التنمية والديمقراطية على الصعيد العربي في تلازم ملفت أيضاً؟ سؤال كان موضع سجال كثير من المفكرين والباحثين العرب، بينهم على سبيل المثال الدكتور سمير أمين، الباحث الاقتصادي المرموق، الذي حاول تقديم قراءة غير أوروبية، ولنقل غير نمطية لتاريخنا، بغية التعرف على جذور العجز العربي المزمن، حين لاحظ أن فتوحات الاسكندر الأكبر أنشأت فصلاً جديداً في تاريخ منطقتنا، ويقصد بذلك المنطقة التي تشمل الشرق الأوسط الذي أصبح فيما بعد عربياً إسلامياً، والغرب الذي صار مسيحياً، فأنهت الانعزال لمختلف شعوب العصر القديم، ومن هنا تكونت منظومة مجتمعات خراجية (من مفردة الخراج) تشترك في أهم سماتها الاجتماعية والثقافية.
إلا أن القفزة الكيفية أو النوعية التي انطلق منها النظام الرأسمالي لم تحدث على شواطئ البحر الأبيض المتوسط التي كانت تمثل المركز الحضاري العالمي، بل على عكس ذلك هجرت القوى الدافعة في هذا الاتجاه هذه المنطقة لتستوطن في المناطق الطرفية سابقاً في شمال غرب أوروبا على شواطئ المحيط، مما أدى الى انتقال المركز الى هناك، وتهميش المركز المتوسطي القديم.
هذا الإلحاح على تحديد جذور التطور التاريخي يشكل جسراً لفهم طابع تراثنا التاريخي وأسباب تخلفنا، ومن ثم غلبة الغرب علينا، فذلك الفهم من أهم العناصر المطلوبة للنهضة وإنماء قدرة فكرية صحيحة على المستوى الذي نحن في حاجة إليه من أجل رسم بديل فعال للممارسات الراهنة التي ورطتنا في مأزق تاريخي لم نخرج منه بعد.
يراهن سمير أمين كثيراً على الدور الذي يمكن أن تلعبه «الانتلجنسيا» كفئة اجتماعية حاملة لمشروع النهضة والتغيير في البلدان التي كانت تسمى «عالماً ثالثاً».
ومن أجل الدقة فإنه يعطي تعريفاً محدداً لما يقصده بالمثقف، الذي هو حسب تقديره من يشترك في إنتاج المشروع المجتمعي في مجال معين من مجالات احتياجات إقامة هذا المشروع، ويشير الى أن مجالات هذا الإنتاج متنوعة ومتعددة لتشمل، فيما تشمل، طرح نظم القيم وأهم الأفكار والتصورات المنسجمة مع هذا المشروع.
يخلص الباحث إلى ما يمكن أن يساعد في الإجابة على السؤال الذي افتتحنا به هذا الحديث ونحن ندعو للمقارنة بين النموذج الهندي والنماذج العربية، حين يؤكد على أنه من واجب الانتلجنسيا، الفئة الاجتماعية التي يعوّل عليها أن تكون قاطعة في رفض النظرة أو المشروع العالمي الذي يدعو لتجانس الإنسانية من خلال تعميم النمط الغربي، والتخلص من الخصوصيات الثقافية باعتبارها مسؤولة عن تخلف هذه الشعوب، حسب أصحاب هذا المشروع، ليصل الى أهمية التأكيد على هذه الخصوصيات واحترامها، منطلقاً لمشروع التحديث.