الانقسام الطائفي في المجتمع معطى موضوعي لا دخل للأفراد أو الجماعات فيه. لقد وجدالناس أنفسهم، سنة وشيعة، يعيشون على هذه الأرض معاً، وليس بينهم من اختار أن يكون شيعياً أو العكس فيكون سنياً، لقد أصبحوا كذلك بحكم الوراثة. «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ».
ثم أن الطائفية كسلوك ومنهج في التعامل في البلد لم تنشأ اليوم، لقد وُجدت دائماً، وتضافرت في ذلك عوامل عديدة وجهود مبذولة من قبل كل من لهم مصلحة في السياسة العتيدة:” فرق تسد “.
من حسن حظنا أننا ننتمي إلى الجيل الذي فتح عينه على الدنيا في تلك اللحظة التاريخية التي توارت فيها الطائفية إلى الوراء بعض الشيء بفعل العمل الوطني الكبير الذي اضطلع به قادة هيئة الاتحاد الوطني ومن سار على دربهم من قادة التنظيمات الوطنية ومناضليها، ومن الشخصيات العامة والمثقفين وقادة الرأي العام الذي كان ولاؤهم للوطن لا للطائفة، للمستقبل لا للماضي. وأحدث هؤلاء من التأثيرات العميقة في الوعي والسلوك ما شكل وعياً عاماً مازلنا نُعول عليه حتى اليوم في مواجهة هذا الفوران المذهبي، لو أن غير الطائفيين في البلد، من تنظيمات وجماعات وأفراد، وحدوا جهودهم واتفقوا على كلمة سواء، لكن هذا حديث يثير الألم والشجون، في كل مرة نقاربه.
لسان حال أصحاب الخطاب الرائج هذه الأيام كأحد أخطر مفاعيل ما مرت وتمر به البلاد من أزمة، يقول وبالفم المليان: «نعم نحن طائفيون، الكل في البلد طائفي، كل طائفة تعمل لمصلحتها، فأين هي المشكلة، على كل طائفة أن تتدبر أمورها بنفسها، فلا الشيعي سينفع السني ولا السني سينفع الشيعي، وبالتالي فعلى كل منهما أن يرتب أوضاعه، وبالتالي أوضاع الوطن كله، وفق هذا الفهم».
هذا قول خطير، مهما كانت مسوغاته، لأن الأمر خرج من دائرة تحبيذ الطائفية أو تبريرها أو تسويغها، كما كان الأمر سائداً، ليدخل في دائرة تمجيدها وتزويقها، فيغدو المنخرطون في لعبتها المدمرة مقتنعين بأنهم يؤدون واجباً دينياً ووطنياً كبيراً، بالانتصار لطائفتهم الذي هو، وفق هذا الفهم، انتصار للحق والواجب الذي يمليه الضمير.
قبل فترة قريبة لم يكن أحد يجاهر بالقول عن نفسه إنه طائفي، وإن كان حتى نخاع العظم كذلك، فمثل هؤلاء كانوا يخلعون على أنفسهم أردية من الورع أو المداراة والمواربة التي تغلف الخطاب الطائفي بعبارات منمقة، تخفف على الأذن السامعة غلواء هذا الخطاب، لكن الأمر لم يعد كذلك اليوم. وما يحز في النفس أن من يسوقون لهذا الخطاب ليسوا فقط من أصحاب الجبب الدينية هنا وهناك، الذين لا تثريب عليهم، وإنما ينخرط في هذا التسويق من يعتمرون القبعات الليبرالية أيضاً، أو على الأقل هكذا يدعون.
البلد لن تخرج من محنتها عبر صيغ المحاصصة الطائفية التي خبرت بلدان عربية أخرى غيرنا تجليات لها، فخلقت مشاكل بدلاً من أن تحل مشكلة، البلد بحاجة لسياسة دمج وطني لكافة مكوناتها في بنية الدولة ومؤسساتها تقوم على معايير الكفاءة ووحدة المواطنة لا الإمعان في تجزئة المجتمع.