تحرير الإعلام «شعار ثوري».. أما تطهير الإعلام فهو «شعار فاشي»ارتفع شعار «تطهير الإعلام» في سماء الاحتفالات والاحتجاجات بالعيد الأول لثورة 25 يناير، حتى غطى على غيره من الشعارات، فزعقت به الحناجر ورفرفت به الرايات، وأصبح الموضوع المفضل للنقاش في المناظرات الفضائية التي عقدت لتقييم إيجابيات وسلبيات العام الأول للثورة، لتنتهي عادة بالحكم بأن الإعلام – وخاصة المملوك للدولة – تعمد خلال العام الذي انقضى من عمر الثورة، إذاعة أخبار كاذبة عنها، ونسبة اتهامات ملفقة إلى قادتها، بهدف تشويه سمعتها، وتنفير الجماهير منها مما يتطلب تطهيره حالاً بالاً من أعداء الثورة.
ولأن كل عمل بشري، سواء قام به الإعلاميون أوالثوار، لا يخلو من خطأ هنا أو هناك، فإن الهجوم الثوري الكاسح على الإعلام بشكل عام ودون تمييز بين الخطأ الذي يقع بحسن نية وبين التآمر الذي يستهدف الهدم، وبين النقد الثوري الذي يوجه للثورة من داخل معسكرها، ويسعي لتصويب مسارها، والتسفيه الذي يستهدف تخريبها ووقف تقدمها، أمر يدعو للدهشة لأنه يصدر عن المتحدثين باسم ثورة من أوائل الثورات في عصر ثورة الاتصالات، تدين بالجانب الأكبر من نجاحها إلي أجهزة الإعلام التي اعتمدت عليها في تجميع الصفوف وحشد الأنصار، وترويج الشعارات، فردت لها الجميل برفع شعار «تطهير الإعلام» لتتأكد بذلك مقولة أحد زعماء الثورة الفرنسية، بأن الثورات كالقطط تأكل أبناءها، وكالفئران بلا ذاكرة ولا تاريخ لا تستفيد من أخطاء غيرها وبذلك يسهل صيدها بالطريقة ذاتها التي قادت اسلافها للمصيدة.
ولأنني أنتمي للجيل الذي عاصر ثورات 23 يوليو 1952 و15 مايو 1971 و5 سبتمبر 1981 و25 يناير 2011، فإن لدي حساسية بالغة، ونفور تام، تجاه شعار «تطهير الإعلام» لأن التجربة علمتني أنه ينتهي عادة بمصادرة حرية الإعلام، ولأن ضحيته الأولى هي الثورة نفسها، فقبل أن يمر أسبوع واحد على ثورة 23 يوليو 1952، أمر مجلس قيادة الثورة بالقبض علي اثنين من ألمع الصحفيين، هما الشقيقان «علي» و«مصطفى» أمين صاحبا دار «أخبار اليوم»، بتهمة إجراء اتصالات هاتفية مريبة بالعاصمة البريطانية في إيحاء بأنهما كانا يحرضان دولة الاحتلال علي التدخل ضد الثورة. وبعد أيام اتضح أنهما لم يجريا أي اتصالات من هذا النوع، واتهم أصحاب جريدة «المصري» الذين كانوا على صلة طيبة بقادة الثورة – بأنهم وراءهذا البلاغ الكيدي لأسباب تتعلق بالمنافسة بين الصحيفتين – وأفرج عن الأخوين «أمين» واعتذر لهما مجلس قيادة الثورة في بيان رسمي ليصبحا من أكثر المتحمسين للثورة، بينما أنتقل أصحاب «المصري» – أكبر صحف حزب الوفد – إلى صف الناقدين لمجلس الثورة، بسبب الحاحهم علي إعادة العمل بدستور 1923، ووصل الخلاف إلي ذروته أثناء أزمة مارس 1954، ليسفر في أعقاب انتهاء الأزمة، بتقديم أصحاب «المصري» وصاحب جريدة «الجمهور المصري» – التي اتخذت الموقف نفسه- إلى محكمة الثورة، وعن اغلاق الجريدتين! وشملت حملة تطهير الصحافة التي أعقبت أزمة مارس، مصارع عشرات الصحف، فتوقفت كل الصحف الحزبية التي كانت تنطق بلسان الأحزاب السياسية بعد حل الأحزاب، واكتشف ثوري عبقري أن هناك نصاً في قانون المطبوعات يقضي بالغاء تراخيص الصحف التي لا تنتظم في الصدور لمدَّة ستة شهور، فأمر بإلغاء 48 صحيفة كان معظمها من الصحف اليسارية والديمقراطية، التي اضطرت لعدم الانتظام في الصدور، بسبب تعنت الرقابة واعتقال محرريها بعد أن فرضت الأحكام العرفية في أعقاب حريق القاهرة. وقرر مجلس قيادة الثورة حلّ مجلس نقابة الصحفيين، لأنه عقد جمعية عمومية في مارس 1953 نددت بتعسف الرقابة علي الصحف.. وعلى سبيل التشهير أعلن مجلس القيادة قائمة تضم أسماء 20 من كبار الصحفيين بينهم 7 من أعضاء مجلس إدارة النقابة و13 صحيفة قال إنهم تقاضوا مصاريف سرية في العهد البائد.. كانت تضم أسماء لصحفيين وصحف من التي خاضت معركة الديمقراطية، تلقوا هذه المبالغ تعويضا عما كانوا يخسرونه بسبب المصادرات التعسفية التي كانت صحفهم تتعرض لها في العهود الديكتاتورية.
ومنذ ذلك الحين أصبح تطهير الصحافة بمنع الصحفيين من العمل، أو نقلهم إلي أعمال غير صحفية، أحد تقاليد الحكم الثوري في مختلف أطواره وتقلباته، خاصة منذ صدور قانون تأميم الصحافة عام 1960 الذي نقل ملكية الدور الصحفية الكبيرة إلي الاتحاد القومي، وقضى بألاّ يعمل أحد بالصحافة إلاّ إذا حصل علي موافقة مسبقة من هذا الاتحاد.. فتعددت موجات نقل الصحفيين إلي أعمال غير صحفية، كما حدث عام 1964 عندما فصل معظم الكتّاب اللامعين في جريدة «الجمهورية» إلي وزارات الحكومة وشركات القطاع العام، وفي عام 1973 – وبعد عامين من ثورة 15 مايو 1971 – أصدرت لجنة النظام بالاتحاد الاشتراكي قرارا باسقاط العضوية العاملة بالاتحاد عن 120 صحفيا – كان من بينهم نصف عدد أعضاء مجلس النقابة – وحرمتهم من العمل بالصحافة ونقلتهم إلى مصلحة الاستعلامات، وفي عام 1981 أصدر الرئيس السادات قراراً بنقل 64 صحفيا إلى المصلحة ذاتها فضلا عن عشرات شملتهم حملة الاعتقالات التي واكبت ثورة 5 سبتمبر لذلك العام فضلاً عمن كانوا يستيقظون في الصباح من الصحفيين فيجدون قرارا شفهيا بحرمانهم من الكتابة أو بفصلهم من العمل.
ربما لهذا السبب، طالبت منذ شهور برفع شعار «تحرير الإعلام» بدلاً من شعار «تطهير الإعلام»، لأن الأول يعني تغيير القوانين والنظم ذات الصلة بالإعلام المملوكة للدولة علي نحو يحرر الإعلاميين من ضغوط السلطة، ويرفع قبضتها عن أعناقهم، ويمكنهم من اتباع تقاليد وأدبيات مهنتهم، أما الثاني فهو مجرد تغيير أشخاص بآخرين، لتظل القوانين والأوضاع التي تحكم هذا النوع من الإعلام قائمة على ما هي عليه، ولأنه في جوهره نوع من الفاشية تسعى لإرهابهم وتخويفهم.. وينتهي غالبا بأن يكون الذين يروجون له من الصحفيين والإعلاميين ضمن قوائم الذين يطالبون بتطهيرهم. باختصار ووضوح: تحرير الإعلام شعار ثوري. أما تطهير الإعلام فهو شعار فاشي!.
الكاتب: صلاح عيسى
كاتب مصري
الأيام 10 فبراير 2012