لا يحضرني الآن أين قرأت عن نتائج استطلاع قامت به إحدى الوسائل الإعلامية، لعلها إذاعة أو صحيفة، حول لأيهما الأولوية عند المواطن العربي: أللخبز أم للحرية؟ لكن ما أذكره أن الاستطلاع شمل مجتمعات عربية متفاوتة من حيث المستوى المعيشي، فتفاوتت الردود بين أفراد المجتمعات التي تعاني أكثر من غيرها من الضوائق الحياتية، وبين أفراد المجتمعات التي تنعم بمستوى معيشي معقول . وبينما مال أفراد الفئة الأولى للتأكيد على أهمية لقمة العيش، باعتبارها الحاجة الأكثر إلحاحاً، أظهر أفراد الفئة الثانية ميلاً أكبر للمطالبة بالحرية والمشاركة السياسية، مع أن الجميع اتفقوا على أهمية الأمرين معاً: الرغيف والحرية، بل إن بعضهم ذهب إلى القول إنهما متلازمان، فلا معنى للحرية مع الفقر، ولا معنى للغنى دون حرية .
الأحداث الدامية الجارية في بعض بلداننا العربية تدفع بنقاشٍ مثل هذا إلى الصدارة، فالمواطن العربي الذي رُوض طويلاً على الصبر، لا يخرج الى الشارع محتجاً إلا تحت ضغط الحاجة القاهرة، حين تعييه السُبل عن تأمين لقمة عيشه، ويشعر بأن الأبواب كافة قد سُدت في وجهه. فجذوة الرفض حتى وإن توارى لهبها، تبدو عصية على الانطفاء، لأن ما في هذا العالم الجائر من مظالم كفيل بإشعال أوارها من جديد، وربما بقوة غير مسبوقة، والاستخفاف بمصالح الناس، وأرزاقها، والامعان في الاستحواذ على الثروات، وحرمان مستحقيها منها، لا يمكن أن ينجم عنه الاستقرار والرخاء، اللذان لا يمكن تأمينهما الا عبر تكريس ثقافة وسلوك المساءلة التي يلزمها الحرية التي تصونها، فيضمن من يقوم بالمساءلة انه سيعود الى بيته سالماً ينام قرير العين.
وفي عالم اليوم فان المساءلة المقصودة لا تتأمن الا من خلال سلطات رقابية مسموعة الكلمة، مثل البرلمانات ذات الصلاحية ومؤسسات المجتمع المدني الفاعلة والصحافة المستقلة، فلا يمكن النظر إلى الفقر الا بوصفه مضاداً للديمقراطية، فلا يمكن لهامش من الحريات العامة، على أهمية ذلك، أن يغني عن الديمقراطية الاجتماعية، أي ديمقراطية العدالة في توزيع الثروات.
والسبيل الى ذلك واضح: الإصغاء الى أصوات الناس الموجوعة وهي لا تطالب بأكثر من لقمة عيش كريمة، تأمينها ليس مستحيلاً، لو أعيد النظر في الطريقة التي توزع بها الثروات وتدار بها أمور الأوطان.
إن أردنا لمجتمعاتنا العربية أن تستقر وتتقدم وتتوجه نحو التنمية المستدامة التي تؤمن العيش الكريم لأبناء اليوم وأبناء المستقبل أيضاً، فلا سبيل إلا بالاستفادة من التجارب الكثيرة التي اجتزناها، وما نجم عنها من دروس كاوية، بأن نتغلب على النقص في الخبز والنقص في الحرية .
وثمة دراسات عدة قدمت الفقر بوصفه مضاداً للديمقراطية، فلا يمكن لهامش من الحريات العامة، على أهمية ذلك، أن يغني عن الديمقراطية الاجتماعية، أي ديمقراطية العدالة في توزيع الثروات، ويظل أن الخبز والحرية معاً يندرجان تحت عنوان واحد هو الكرامة الانسانية، فالانسان الجائع لا يمكن أن يكون حراً، والانسان الحر لا يمكن أن يرضى بالجوع أو بصور الضيم المختلفة، وتلك فيما نرى خلاصة ما نشهده من الهزات الاجتماعية والسياسية التي شهدها عالمنا العربي وما يزال.
حرر في 9 فبراير 2012