شهد القرن العشرون حربين عالميتين مدمرتين، وشهد كذلك انبثاق أفكار شمولية قائمة على إقصاء الآخر، لا بل إبادته، من أجل تسويد عرق معين أو فكرة بعينها، كما هو حال النازية.
حتى الثورات التي وقفت خلفها أفكار نبيلة تنشد التغيير إلى الأحسن، وغيرت وجه التاريخ، لم تخل هي الأخرى من فظاعات كبرى، سقط فيها ضحايا أبرياء كُثر. ويمكن وضع قائمة طويلة لا نهاية لها من الآثام والموبقات والبشاعات والفظائع التي يمكن أن تنسب إلى القرن الفائت، خاصة أنه أصبح ماضياً.
لكن هل بوسعنا نحن أبناء ذلك القرن الذين عشنا الجزء الأكبر من أعمارنا فيه، أن ندير ظهرنا له، ونغفل الصفحات المشرقة الكثيرة فيه. هذا سؤال يراودنا مرات ونحن نستمتع بقراءة كتاب المؤرخ البريطاني ايريك هوبزبوم، الموسوم «عصر مثير»، مع عنوان فرعي هو: «رحلة عمر في القرن العشرين»، وعاش المؤلف أكثر من ثمانين عاماً في ذلك القرن، أي أنه في كلمات رافق مسار قرن بكامله، بما له وبما عليه.
ولم يسبق لي أن قرأت مزاوجة بين السيرة الذاتية وبين التاريخ كما يفعل مؤلف هذا الكتاب، الذي عاصر أحداثاً جساماً، وكان من موقعه، كمؤرخ، قريباً منها، لا بل شريكاً فيها، كونه كان وثيق الصلة بالحركة العمالية والديمقراطية لا في بلاده بريطانيا وحدها، وإنما في بلدان أوروبية أخرى.
مصدر قوة هذا الكتاب ومحور الجذب والتشويق فيه ناجم عن هذه المزاوجة، فلربما لا تعنينا كثيراً تفاصيل حياة الرجل، ولكنها أصبحت تعنينا حين قارناها بمجريات العصر المثير الذي عاشه.
في تقديرنا إن القرن العشرين، على ما فيه من بلاوٍ وكوارث، كان قرن الأمل، قرن الأفكار الكبرى والثورات التي غيرت مجرى التاريخ، لا في السياسة وحدها، وإنما في الثقافة والفلسفة والعلوم وغير ذلك.
بدت نهاية القرن كأنها انتقاماً من بداياته المفعمة بالتفاؤل، فبدت الكثير من الأحلام وقد أَفَلَتْ، لتسود الكوكب نزعة رجعية معادية لحرية الإنسان وتوقه إلى أن تكون دنياه أجمل، وأن تنتهي المظالم وأشكال الاضطهاد.
وبوسع القارئ العربي للكتاب أن يطرح على نفسه سؤالأ فحواه التالي: لو أن أحد كُتابنا العرب ممن عاشوا حياة ممتدة في القرن العشرين أن يكتب سيرة هذا القرن كما تجلت في بلداننا العربية، أكان سيخلص إلى النتيجة نفسها التي خلص اليها مؤلف الكتاب سالف الذكر أعلاه؟
أذكر أن إحدى الصحف الخليجية قدمت على مدار شهر كامل في نهاية القرن العشرين عدداً من الملفات التي كتبها مفكرون وسياسيون ومثقفون عرب من مختلف البلدان العربية عن انطباعاتهم عن ذلك القرن، خلص فيها الكثيرون منهم إلى أن شحنة الأمل في بداياته كانت أقوى وأكثر زخماً.
ويبقى السؤال: هل كان بإمكان تاريخنا نحن الذين عشنا في القرن العشرين، أن يتخذ منحى آخر غير الذي آل إليه، وهو، كما يذهب المؤلف عن حق، ليس سؤالاً عن الماضي بل عن الحاضر، حيث يتعين علينا ألا نكف عن الأمل والعمل في سبيله، فالعالم لن يتغير من تلقاء ذاته.