للورد حكاية أخرى. حكاية في مواجهة الحديد والدخان والغاز والرصاص. في مواجهة العراء والأسوار والأسيجة. في مواجهة الضغائن والتصحّر في الحس والمشاعر. في مواجهة الذهاب عميقاً إلى كل ما يسيء إلى التنفس ورفاهية العين برؤيته (الورد).
كل الفصول لا تحب الربيع؛ لأنه متعدّد في تشكّله وروحه. واحة للعين مثلما هو واحة للنفس والروح. الفصول الأخرى إما متجهّمة (الشتاء)؛ أو متوترة ومستفزة (الصيف)؛ أو مستسلمة للشيخوخة والهرم ولو بشكل مؤقت (الخريف).
كل الورود التي رفعت في الربيع العربي استقبلت بالدخان والرصاص والهراوات والركلات وشتائم طالت الدّين والعرض. لا دين للحذاء الذي يركل محتجاً. لا دين للرصاصة التي تهتك حرمة الحق في الاحتجاج وحرمة هتك الحياة نفسها. كل الورود استقبلت بالدم؛ أو كان الموت يختبئ لها من سطح مبنى بتأهّب قناص؛ أو حاملة جند في الطريق إلى وضع حد لاستفزاز الورود وحامليها.
ثم إنه لماذا لا تزدهر عندنا تجارة الورود إلا في الأحزان، والاحتجاجات في زمن ضالع في الخيبة وتراكم الارتدادات؟ فالورود على الأضرحة أكثر منها في صالاتنا وغرف نومنا وما يسعفنا به الوقت من مجاملات أو حتى نفاق لا تخلو منه الحياة، ولن تخلو!
كل استبداد في الدنيا اعتاد أو توقع أن يواجه المحتجين على ممارساته بالحديد والنار قبالة حديد ونار؛ لكن المستفز في هذه المرحلة أن المحتجين ابتكروا أداة مغايرة في مواجهة شهوة القتل. كان الأمر مستفزاً ويدعو إلى السخرية والاستغراب في الوقت نفسه. مستفزاً من حيث إهانة آلة القمع المقابلة. ويبعث على السخرية لأن الإنسان نفسه في وعي البطش لا يمكن أن يصمد أمام آلته فكيف بوردة؟ ومستغرباً أن يتمترس أولئك الغاضبون المحتجون بوردة في مواجهة آلة الخسف تلك.
الربيع العربي الذي لن يلتفت إلى خريفه بعد اليوم، والوردة التي تصدّرت الميادين على أكف مناضليها والأحرار، تلك التي حملها الفقراء والمعدمون وأبناء الطبقة الوسطى؛ وحتى أولئك الذين يمتلكون ثروات طائلة أخذتهم لزمن بعيداً عن قضايا ومعاناة شعوبهم، لتلتفت في صحوة ضمير إلى تاريخ طويل من المعاناة والمصادرة؛ ستظل الأيقونة المستفزة الساخرة من كل وهم القوة والصلف وسكْرة الحديد. أيقونة تريد للحياة أن تسود في طمأنينتها واستقرارها ليمتد كل ذلك إلى حيوات الناس وتفاصيلها بإشاعة الحقوق فيما العين في الوقت نفسه على الواجبات؛ إذ لا واجب يمكن أن تطالب به جهة في ظل مصادرة وتغييب للحقوق.
الذين تستفزهم الورود في اللحظات الفاصلة المرتبطة بالحقوق أدمنوا لغة ورؤية والتماس مع الحديد كرد لا يفقهون سواه. والذين تخرجهم الورود عن طورهم كائنات من حديد. كائنات ألفت الورد في الأمكنة الفسيحة في ضيق فضاء الناس وألفتها في المسيج من الأمكنة التي يتحصنون فيها، في عزلة شرسة لا ترى البشر إلا محض فضول وقلة خلق في وجودها ومشاركتها الحيز نفسه، ولو بعيداً عن أسوارها.
ولم تألف تلك الكائنات في الوقت نفسه أن ترى الورد خارج أسوارها مرفوعاً بهتافات حقوق وليس هتافات مكرمات وهبات. والذين يستغربون من وردة في احتجاج أدمنوا وعي أن الاحتجاجات والهبّات لا تكون إلا بما يحمي ظهرها ويسنده، والوردة دون ذلك بكثير في وعي نمطي كذاك.
كأنك برفع الوردة احتجاجاً في مواجهة آلة الخسف تستخف بكل تلك المنظومة من الاحتواء والحصار والمصادرة. ذلك أمر لا يمكن أن يمر مرور الكرام. تلك تهمة أخرى.
كم أثبتت الوردة وهي في أيد من حديد وعزائم من فولاذ أنها قادرة على تغيير خرائط مصائر وتغيير تأبيد واقع واستمرار استحواذ واستيلاء؟ كم أثبتت الأيدي والصدور العارية التي خرجت من دائرة خوفها ويأسها إلى رحابة الأمل وتحدي الصلف أنها قادرة على فعل التغيير، وقادرة على إعادة النظر في معادلات ظلت – وهما – عصية على الخلخلة والتغيير؟ كم أثبت الحراك العربي بربيعه الاستثنائي وأداة مواجهته الرهيفة (الوردة) أن التغيير يمكن له أن يتم من دون سيارات مفخخة (كما في فقه بعض العقائد) ومن دون اغتيالات ومن دون استهداف مصالح عامة أو خاصة، فقط بفعل الاحتجاج الحر والحضاري المستوعب والمسئول والواعي لشروط المرحلة وحساسية اللحظة.
يمكن للذين يمسكون بالوردة من دون أن ترتعش أيديهم وبإرادات واثقة أن يعيدوا إلى الحياة اعتبارها وأن يعيدوا صوغ النظر والتعامل والتعاطي معها، منذ صرخة الولادة الأولى إلى تاريخ طويل من هيمنة آلة القمع والمصادرة. آلة مصادرة الحق في الحياة.
والمنتفعون من خلل الحياة بتسيّد المصادرة لكل حق، يرون في الوردة وحمَلتها خناجر ورصاصاً، وبما أنهم لا يمثلون الحياة في بعدها الخلاق والبريء لا معنى لرؤيتهم فالحياة بوعيها وإدراكها ترى الأمر خلاف ذلك
صحيفة الوسط البحرينية – 04 فبراير 2012م