هناك حُمى تجتاح الكثير من الأوساط السياسية وحتى الأكاديمية والفكرية العربية اسمها الحمى التركية، تذكرنا بالولع الذي اجتاح القوى اليسارية العربية في عقود سابقة بالنموذج السوفيتي تارة أو الصيني تارة أخرى، قبل أن نفيق جميعاً على حقيقة أن النموذج المبتغى قد سقط، فانهار النظام السوفيتي، فيما توغل الصين في اقتصاد السوق، مخترعة لنفسها رأسمالية خاصة بها لتوائم بها خصائص تطورها الثقافي والروحي، وبالطبع الاقتصادي، حتى وإن احتفظ الحزب الذي لا يزال اسمه شيوعياً، بمفاصل السلطة والقرار.
شكل حزب الحرية والعدالة في مصر بعد ما حققه من تقدم في الانتخابات لجنة، يلاحظ أن عضويتها اقتصرت على كوادر الحزب من المشتغلين بالشأن الاقتصادي، ولم يشركوا فيها أحد من خارج الجماعة، رغم ما تعج به مصر من عقول اقتصادية نيرة مشهود لها بالكفاءة، وكان الهدف من اللجنة دراسة نماذج النمو الاقتصادي في بعض البلدان أهمها تركيا وماليزيا، وليس في هذا ما يدعو لاعتراض، بل أنه أمر حميد أن تتم الاستفادة من خبرات البلدان الأخرى، لرؤية إلى أي مدى يمكن الاستفادة من إيجابياتها وتفادي سلبياتها.
لكن ما نحن بصدده لا يدور عن مثل هذه الدراسة للتجارب الجديرة بالدراسة في أي مجتمع كان، وإنما بهذا الترويج المبالغ فيه للنموذج التركي، كما لو كان فيه الحل السحري لمشاكلنا التي عجزنا عن حلها، ليس فقط لأن المنادين بهذا الاستنساخ يغفلون عن حقيقة أن في أساس الاندفاع التركي نحو المنطقة العربية تكمن أسباب أخرى معقدة، بينها الحلم باستعادة المجد العثماني الغابر في البلدان العربية، والصراع الجيوبوليتيكي مع طموحات النظام الإيراني لمد نفوذه إلى بلدان المنطقة، فضلاً عن الرغبة التي لا يمكن لتركيا أن تخفيها في التعويض عن فشلها في الاندماج أوروبياً، بإخفاقها حتى اللحظة من دخول السوق الأوروبية المشتركة، من خلال الالتفات نحو الشرق العربي الذي تعتقده ساحة نفوذ ممكنة بفعل التعقيدات الكثيرة الراهنة.
تعميم النموذج التركي في البلدان التي شهدت تغييرات، مثل تونس ومصر، أو التي بات في حكم المؤكد أن تشهد تغييرات مثل سوريا، أمر غير ممكن، وفي الدعوة لمحاكاة النموذج التركي عودة إلى استنساخ تجربة نشأت وتطورت في سياقات ثقافية وسياسية أخرى، وإسقاطها على بيئات عربية مختلفة، لم تجتز التحولات التي شهدتها تركيا قبل أن يصل الإسلاميون الجدد إلى الحكم فيها، وفي مقدمة ذلك التراث العلماني الذي أرسى قواعده أتاتورك، والذي لم يعد بوسع أحد التنكر له.
ومن دلائل ذلك أن الإسلاميين الأتراك كيفوا خطابهم السياسي والانتخابي على هذا الأساس حين أكدوا احترامهم والتزامهم بالطابع العلماني للدولة، وهو طابع لم يتحقق في أي بلد عربي آخر، رغم ما قد تشكله الحالة التونسية من استثناء في نطاق معين، وهذا ما كان راشد الغنوشي واعياً له، حين قال عشية انتخابات المجلس التأسيسي في تونس أن حركة النهضة التي يتزعمها ستأخذ بعين الاعتبار الطابع التعددي للمجتمع التونسي، لكن تظل المسافة بين القول والفعل شاسعة، حتى نختبر ذلك في الممارسة الفعلية.