هل يمكن ان تكون هبّات “الربيع العربي” من انتاج أجهزة تخطيط وتنفيذ لها أهداف جيوسياسية متوسطة وبعيدة المدى؟
مثل هذا التصور والاعتقاد برز وتعزز بعد نجاح القوى الغربية في الدخول على خط ثورات “الربيع العربي”، خصوصا على النحو الفاقع الذي شهدناه في ليبيا والآن بشكل أوضح وأصرح في سوريا.
ولاشك ان هذا الجدل المتجدد يكتسب جِدّته وحيويته مع حلول الذكرى السنوية الأولى لانطلاق ثورات “الربيع العربي” التي أشعل فتيلها الشباب العربي الغاضب واجتاح بها أنظمة بوليسية راسخة في تونس ومصر في فترة زمنية قياسية.
بعض المجادلين المرجّحين لذاك الاعتقاد، يستعيدون شريط بداية تفجر الأحداث في تونس ثم في مصر، وكان بطلاها “المجهولان” “الفيس بوك” و “تويتر” اللذين استعان بهما شباب الثورة في تونس أولا وفي مصر تاليا، ويعيدون الى الأذهان كيف حاول نظام حسني مبارك قطع “شريان الحياة” عن شباب الثورة وسلاحهم الفتاك، أي “فيس بوك” و”تويتر”، وذلك بالمسارعة لتعليق عمل شبكة الاتصالات بهدف تعطيل شبكة التواصل الاجتماعي التي سجلت في ذلك الوقت في كل من تونس ومصر أعلى نسبة مشاركة منذ اطلاق خدمتيهما في البلدين، ويتذكرن أيضا كيف أثار ذلك الاجراء البوليسي الحكومي المصري غضب واستياء البيت الابيض ووزارة الخارجية الامريكية ومطالبتهما اللحوحة والشديدة اللهجة للرئيس حسني مبارك بارجاع خدمة الانترنت على الفور فانصاع النظام وارجع الخدمة ولو بصورة متقطعة حفظا لماء الوجه.
نحسب ان الثورات لا تُصنَّع بحيث يمكن اختيار مكانها وتحديد زمن اطلاقها (أي ساعة صفرها كما في الانقلابات العسكرية) حسبما تذهب رغبات وارادة مصنّعيها، وتبعا لما تستدعيه حاجتهم. الثورات تتخلّق على ايقاع وتيرة الحياة الاجتماعية التي يتراكم خلال تضاداتها سخط متدرج الحدة الى ان يصل الى درجة الغليان التي تسبق الانفجار، ما لم يتم تنفيسه في اللحظة المناسبة. وهذا الوضع المتفجر لا يحدث الا نادرا حيث ان عملية “احترار” السخط الشعبي العام لدرجة الغليان تأخذ وقتا طويلا نسبيا. ولذلك فان انفجار الأوضاع على النحو الذي شاهدناه في غير بلد عربي مطلع العام الماضي، كان متوقعا من قبل عديد المفكرين والباحثين الاقتصاديين، الذين كانوا يقرأون “نضج” الأوضاع واقترابها من “لحظة الانفجار”، في أرقام ومؤشرات الأداء الاقتصادي الفاشل والمفضي حتما لتلكم النتائج المدوية.
وبهذا المعنى فان ثورات “الربيع العربي” لا يمكن ان تكون بأي حال من الأحوال من مخرجات أفكار انقلابية تآمرية، بقدر ما هي نتاج حصاد متراكم من السخط الناجم عن تصاعد حدة التهميس والافقار والاذلال، مع الملاحظة هاهنا بأن الكرامة (Dignity) كانت أحد العناوين الرئيسية التي تصدرت مشاهد الاحتجاجات الشبابية.
ولكن هذه الاحتجاجات كانت من الاتساع والتداعي السريع داخليا واقليميا وعالميا، بحيث انها خلقت نوعا من ما يمكن ان نطلق عليه فوبيا “الربيع العربي”. فأمام الخوف من سرعة انتشار “عدواه”، كان لابد للقوى المضادة للتغييرات النوعية، الداخلية والجيوسياسية، التي كانت ستترتب عليه، وعلى رأسها الولايات المتحدة الحليف التاريخي للدكتاتوريات ولأنظمة الاستبداد في العالم، وكافة حلفائها في الغرب والشرق، أن تستنفر كل قواها والتحرك سريعا لوقف ذلكم التطور النوعي “الخطير” والمفاجىء والمنذر “بأوخم العواقب” الاقتصادية (المتصلة بموازين القوى) والجيوسياسية، ليس بأدوات القمع التقليدية الفاضحة، وانما عبر أساليب الاحتواء والالتفاف، وذلك بالامساك بعنان الحصان كي لا يجمح وتوجهه الوجهة المرغوبة.
وهذا ما حدث وحقق، حتى الآن، النتائج المتوخاة وأهمها تحويل الربيع العربي الى خريف متجسد في النتائج المعاكسة للمسارات التي كان “الربيع العربي” يتجه اليها والاهداف التي خطّتها ثوراته الشبابية العارمة.
فبموازاة زخم الربيع العربي، اندفعت القوى المضادة بزخم أكبر ملؤه عمليات التحايل والخداع الكبرى التي باتت فصولها شاخصة للعيان بكل سطوع ووضوح، بدءا من مصر ومرورا بليبيا وليس انتهاءا بسوريا التي يرمي الآن “التحالف الدولي لاحلال الخريف العربي محل الربيع العربي” بكل ثقله من أجل اسقاط نظامها واحلال نظام آخر مكانه جرى التوافق مع رموزه في الخارج بعد أن قدم الأخيرون أوراق اعتمادهم لدى قيادة ذلك التحالف في واشنطن وباريس. حتى ليكاد “الخريف العربي” هو الذي يحتل المشهد السياسي العربي الآن ويطبع كامل تقلباته وتطوراته بطابعه.
انما السؤال: هل تستطيع “الهندسة” الماكرة والبارعة، اعادة تحوير وصياغة النظم العربية المستبدلة أو تلك التي هي قيد الاستبدال – في اطار الأجندة الشرق أوسطية الكبرى في استخلاف “المتعاقدين” الجدد مع “المتعهد” الأكبر – ان تضع نقطة على السطر كخاتمة آمنة وسعيدة لغليان ربيع 2011؟
سوف يجد الحكام الجدد انهم مطالبون بتحقيق مطالب ليس بالسهل تحقيقها في ضوء المعطيات المتوفرة، أقلها تحقيق معدل نمو لا يقل عن 8 – 10 % سنويا لتأمين حاجات جيل واحد، ومقابلة الضغوط الديموغرافية، وتحديات التحول الديمقراطي، وامدادات الطاقة والأمن الغذائي.
فهل يستطيعون مقابلة هذه التحديات بأجنداتهم وبرامجهم غير المعلنة وبالتزاماتهم التي قطعوها على أنفسهم أمام هذا “المتعهد” وذاك؟