أحد الباحثين الأمريكان من غلاة المحافظين الجدد كتب بحثاً، هو أقرب إلى أن يكون مرافعة دفاع عن النهج الذي اختطه صانعو القرار في الولايات المتحدة تأثراً بأطروحات أولئك المحافظين الجدد.
ومن اللافت في تلك الدراسة قولها أن أصحاب تلك الأطروحات عادوا فيما عادوا إليه، إلى رواية جورج أوريل الشهيرة: «1984»، وكذلك إلى أعمال الكاتب الروسي ألكسندر سولجنستين، الذي مُنح جائزة نوبل وعاش ردحاً من حياته في أمريكا ذاتها ليعود إلى موطنه بعد سقوط النظام الاشتراكي فيها.
كان سولجنستين قد حذَّر وهو ينتقد النظام السوفيتي من احتمال ألا يفيق الناس، إلا بعد أن يكون الذئب قد نهش ما فيه الكفاية من لحم ضحيته، أما أعمال أوريل سواء في الرواية المذكورة أو في روايته الأخرى الشهيرة أيضاَ: «مزرعة الحيوان»، فكانت مثل أعمال سولجنستين موجهة لنقد الاستبداد والنظام الشمولي، وكان بصره مصوباً على الشرق الأوروبي، يوم كانت فيه أنظمة اشتراكية.
ما لم يدر بخلد أوريل نفسه أن رواياته ستغدو شهادة إثبات لا ضد الأنظمة التي خرجت من التاريخ لأنها لم تُؤَمِن لنفسها مُقومات بقاءها، وإنما ضد الأنظمة التي قادت الهجوم المضاد على نموذج التطبيق الاشتراكي في شرقي أوروبا، وتحديداً في الحقبة الريغانية- التاتشرية، وليس صدفة أن رونالد ريغان بالذات جلب عدداً من المحافظين الجدد للعمل داخل إدارته في مجال السياسة الخارجية.
حين سقط الاتحاد السوفيتي قال أحد هؤلاء أن حركة المحافظين الجدد انتهت، و” لكن الذي أنهاها لم تكن هزيمتها، فهي ماتت لأنها نجحت، وليس بسبب إخفاقها “، بل أن صاحب نظرية نهاية التاريخ فرانسيس فوكاياما تملص من هذه الحركة قائلاً «أنها أصبحت اسما بلا مسمى».
لكن سرعان ما تبين بطلان هذا الاستنتاج، فالمحافظون الجدد اخترعوا لأنفسهم خصوماً جدداً، فوجدوا في الحرب على العراق، مثلاً، امتدادا لنهجهم السابق، وجرت صياغة مفهوم الدول المارقة لإعادة ضخ الدماء للنظرية ذاتها. لم تكن إدارة أوباما هي من صاغ شعار دمقرطة الشرق الأوسط، وإنما صاغته إدارة بوش الابن برعاية المحافظين الجدد، ولم يكن باعث ذلك هو الحرص على الديمقراطية في هذه المنطقة، وإنما توفير الأداة الأيديولوجية لما عرف بالحرب على الإرهاب، بناء على تعميم فكرة أن السبب الأصلي لهذا الإرهاب يكمن في طبيعة السياسة الثقافية الاجتماعية المُشربة بالعنف في الشرق الأوسط. وحين جاء الديمقراطيون للبيت الأبيض ثانية بزعامة أوباما، لم يكن بوسعهم مغادرة هذا النهج، رغم تظاهرهم بالقطيعة مع المحافظين الجدد، وقبل التحولات في تونس ومصر وغيرهما من البلدان العربية في العام الماضي قال أحد المقربين من المحافظين الجدد أن المنطقة العربية هي المنطقة الوحيدة التي تغيب عنها الديمقراطية، ويبدو هذا القول حمَّال أوجه، أو على الأقل حمَّالاً لوجهين، فهو إما أن يعني أنه حان دور هذه المنطقة لتصبح ديمقراطية، أو أن هناك عوامل ثقافية وسياسية ودينية تؤخر انتشار المد الديمقراطي.
على هذين الاحتمالين ستظل السياسة الأمريكية تراوح دون ترجيح أحدهما بالمطلق، فما يحكم هذه السياسة، سواء كان سيد البيت الأبيض ديمقراطياً أو جمهورياً، هو المصالح، أما المبادئ فإن كان لها من مرتبة، فانها مرتبة ثانوية.
حرر في 24 يناير 2012