كنت قد التزمت في مقالي الأخير يوم الخميس الفائت أن أواصل الكتابة اليوم فيما سبق أن بدأته حول التوصيات الخطيرة الصادرة عن “اللجنة الاستشارية لبحث التطورات الاقتصادية”، ولكن قبل ذلك لابد من التوقّف أمام تطورين مقلقين، بل خطرين شهدتهما الكويت نهاية الأسبوع الماضي، كان أولهما الشطب المتعسف لترشيح النائب السابق الدكتور فيصل المسلم وما ينطوي عليه هذا الإجراء من إهدار صارخ لمبدأ الحصانة البرلمانية الموضوعية المطلقة لأعضاء مجلس الأمة المكفول في المادتين 108 و110 من الدستور، وهذا ما يعيد الأزمة السياسية مرة أخرى إلى المربع الأول الذي كانت فيه قبل استقالة الحكومة السابقة ورئيسها وحلّ مجلس الأمة… فيما تمثّل التطور الآخر المقلق والخطير في التعامل الأمني القمعي المتعسف بالغ القسوة مع الكويتيين البدون المطالبين بنيل حقوقهم، وهو ما يكشف أنّ السلطة لم تتخل عن نهجها الأمني في التعامل مع قضية الكويتيين البدون؛ ما يعني أنّها لا تزال بعيدة عن تلبية استحقاق حلّ هذه القضية الإنسانية المتفجرة حلا عادلا ونهائيا.
وأعود إلى ما كنت قد التزمت بالكتابة عنه في مقالي اليوم… إذ سبق أن ثار في شهري مارس وإبريل من العام 2010 جدل واسع حول مشروع قانون الخصخصة، ودار ذلك الجدل، بل الأحرى الخلاف والصراع، حول مدى دستورية التصفية النهائية للقطاع العام المملوك للدولة تحت شعار الخصخصة، وعدم جواز تنازل الدولة عن ملكيتها للثروة النفطية؛ وبالتالي عدم جواز خصخصة النفط، والموقف المتباين تجاه خصخصة التعليم والصحة، وضرورة إصدار قانون خاص بأي التزام لاستثمار مورد من موارد الثروة الطبيعية أو لاستثمار أي مرفق عام من مرافق الدولة، وكذلك دار الجدل حول مايمكن أن يترتب على الخصخصة من إضرار بالعمالة الوطنية في مؤسسات القطاع العام التي ستتم خصخصتها؛ ومدى التزام القطاع الخاص بتوفير ضمانات للعمالة الوطنية المنتقلة إليه، والآثار التضخمية الناجمة عن ارتفاع أسعار السلع والخدمات التي تقدمها المؤسسات التي ستخصخص… وتحت تأثير ذلك الجدل، أو الخلاف والصراع، جرى تعديل قانون الخصخصة بعدما كان قد تمّ إقراره في مداولته الأولى، بحيث استثنيت من الخصخصة قطاعات إنتاج النفط والتعليم والصحة.
وبالطبع لم يرض هذا التعديل دعاة الخصخصة وأصحاب المصالح ورؤوس الأموال وأنصارهم… فهاهي “اللجنة الاستشارية لبحث التطورات الاقتصادية” تحاول العودة إلى خصخصة النفط والتعليم والصحة عن طريق نافذة توصياتها المنحازة طبقيا بعدما تمّ طرد تلك الخصخصة من باب التشريع… حيث جاء في توصياتها، التي نشرت الصحف بعض مقتطفات منها، دعوة إلى “الإسراع في خصخصة العديد من القطاعات والأنشطة الحكومية”، و”خصخصة مشروعات كهرباء وماء واتصالات ومواصلات ونفط وبريد وهاتف وصرف صحي وإسكان وأسواق مال… وتخصيص الموانئ والمطار … بالإضافة إلى خصخصة إدارات مستشفيات ومدارس وغيرها من الخدمات الصحية والتعليمية”!
واللافت للانتباه أنّ اللجنة تطرح مثل هذه التوصيات لتوسيع الخصخصة وتسريعها تحت شعار “تقليص هيمنة الدولة على الاقتصاد” والمقصود تصفية القطاع العام وإنهاء الدور الاقتصادي للدولة، وذلك على الرغم من تداعي مثل هذا الشعار النيوليبرالي المتهافت وثبوت فشله بعد الأزمة الاقتصادية والمالية التي عصفت بالنظام الرأسمالي العالمي منذ 2008 وأسقطت معها ادعاءات النيوليبراليين وأوهامهم حول قدسية “آلية السوق” وحكمتها وقدرتها على تصحيح نفسها بنفسها، ناهيك عما أكّدته هذه الأزمة من ضرورة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، بل لقد طالب عتاة النيوليبراليين في الغرب حكومات بلدانهم بمثل هذا التدخل لإنقاذ مصالحهم وحماية رؤوس أموالهم وتعويض خسائرهم على حساب المال العام وعلى حساب الطبقة العاملة والطبقات الشعبية.
باختصار، إنّ ما طرحته “اللجنة الاستشارية لبحث التطورات الاقتصادية” من توصيات خطيرة تستهدف من جهة تقليص بنود الإنفاق الاجتماعي الضرورية وتحميل الطبقات الشعبية المزيد من الأعباء والمساس بالمكتسبات التي حققتها، وتستهدف من جهة أخرى إطلاق أذرع إخطبوط الخصخصة لتمتد إلى النفط وتشمل الخدمات الأساسية، إنما تمثّل في مجموعها بنود برنامج طبقي منحاز بالكامل لكبار أصحاب المصالح والمال والأعمال!
عالم اليوم 15 يناير 2012