نعود إلى تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية، ففيه ما يستحق العودة مراراً وتكراراً، فهو علاوة على أنه صادم مرتين، مرة في الفعل ومرة في رد الفعل، فهو أيضا شئنا أم أبينا كاف لاستنفار الضمير العام وليس الضمير الغائب.
هذه المرة ننشغل بالتقرير من زاويتين، الأولى من خلال سؤال: هل ثمة صلة او رابط او ارتباط بين هذا التقرير وتقرير اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق، اما الثانية فهي على شكل إقرار بخطأ ما كنا قد توقعناه بحدوث حالة استنفار في أوساط الوزارات والهيئات والمؤسسات الرسمية على خلفية التجاوزات والانحرافات التي كشف عنها تقرير ديوان الرقابة والتي معظمها في أصلها ومنتهاها تدخل في دائرة الفساد.
بالنسبة للسؤال، أرجو عدم الاستهانة به، فهو مهم وجاد للغاية، واحسب ان من يتمتعون بموهبة التحليل والتشخيص لديهم مقدرة على إدراك مدى الربط بين التقريرين، وأظن – رغم ان بعض الظن اثم- بانهم سيجدون في كليهما تفاصيل كثيرة مفجعة ومسكونة بقدر كبير من المرارة والسخط وكثرة الهواجس حول أوضاع كانت الأعين حيالها تغمض والآذان تسد.
في التقريرين نجد ما يشعرنا بالحاجة الملحة الى اعادة ترتيب البيت البحريني، وإعادة النظر في الأولويات والاحتياجات والمتطلبات، وضرورة إمساك الأدوات الصحيحة لإجراء إصلاحات هامة وجراحات موجعة، والتقرير الأول يعبر في خلاصته تعاظماً في مواضع الخلل في مرافق عدة ضربت في الصميم قيم المسؤولية العامة وأداء الواجب واحترام القانون عبر مسلسل تراوحت حلقاته بين سوء أداء وإدارة وفشل وعبث بالمال العام وهدر للموارد العامة وغياب المراقبة والمحاسبة.
فيما التقرير الثاني فإنه هو الآخر يكشف مواضع ألم موجعة وخطايا ارتكبت ولا تزال ترتكب في حق هذه البلاد وناسها، بصورة لا يحكمها المنطق والتعقل يراد منها ضرب بقايا العافية المتآكلة في نسيج المجتمع.
في التقريرين أجواء ترقب وصدمة في آن واحد، الأول كان منتظراً ان يكون وسيلة لإنعاش الآمال لمواجهة عدو مشترك لكل المواطنين وهو الفساد، وترقب الناس خطوة على هذا الطريق، وقد باتوا الآن «مصدومين» لأن لا شيء يلوح في أفق هذا الترقب، أما التقرير الثاني فقد كان يعوّل عليه بأن يفتح صفحة جديدة في تاريخ البحرين تمضي بالجميع الى آفاق من العمل الوطني والانجاز الفاعل، هكذا كان الترقب والتوقع، اما الصدمة فهي في إمعان البعض المضي نحو كل ما يزرع القلق والخوف، وإصرار جوقة الردح على إبقاء وضعنا في غرفة العناية الفائقة، وهؤلاء ألفناهم حينما يرون ضوءا في نهاية النفق يصرون على ان يحفروا المزيد من الأنفاق..!! في التقريرين قواسم مشتركة أخرى، فالأول يتناول جرائم استثمار الوظيفة العامة ويكشف عن مظاهر استغلال وانحراف وتجاوزات ظلت على مدى سنوات مثار تساؤلات حول ما إذا كنا جادون حقا في محاربة الفساد ومواجهة هدر المال العام والتعدي على الموارد العامة، وانتهاك القوانين واللوائح وهي القضايا التي استحوذت ولازالت على اهتمام شعبي، بل هي بين أهم أسباب الاحتقان والتأزيم السياسي والاجتماعي وزيادة السخط وكل ما يقلب المواجع ويلهب المشاعر، ويمكن لنا ان نلاحظ ان الخلاصة المعبرة من التقرير الثاني اننا لم نضع أيدينا على مفاتيح العديد من مشاكلنا ولم نديرها في الاتجاه المنشود، وإجمالا فان كلا التقريرين يشعراننا بغصة في تفاصيلهما الكاشفة حقا عن أشياء مهمة ومؤرقة وموجعة للناس في هذا البلد تستدعي مراجعة ومعالجة جادة. ومن جهة أخرى يفرضان ان ندرك باننا لم نتعاطَ مع محاربة الفساد كأولوية وطنية من منظور التقرير الاول، ولم نعد بعد توجيه البوصلة كما يجب لنوقف هذه الايقاعات التأزيمية المؤدية الى عواقب أقل ما يقال فيها انها وخيمة كأولوية وطنية اكبر من منظور ما بينه التقرير الثاني وتداعياته. وكلاهما يدفعان الى ضرورة الوعي بالاولويات الملحة والحاجات التي لا تحتمل المزيد من التأجيل والاستحقاقات التي علينا بلوغها.
ذلك ما يدخل في اطار الزاوية الاولى لهذا الموضوع، أما الزاوية الثانية فهي اقرار واعتراف بخطأ ما كنا قد توقعناه بان حالة من الاستنفار سوف تحدث في أوساط 55 وزارة ومؤسسة وهيئة حكومية على خلفية الانحرافات والتجاوزات والعلل التي كشف عنها تقرير الرقابة، فالتوقع لم يكن في محله هذه المرة، أو على الأقل بقى في غرفة الإنعاش لم يغادره حتى اللحظة.
لقد تبين لغاية تاريخه وعلى غير العادة ان وزارة او اثنتان او ثلاث على اكثر تقدير هي التي سارعت الى التوضيح وتسويق مبررات وجدناها كمن يزيد في بعد الكلمة عن الحقيقة، والحل عن المشكلة.
ماذا يعني ذلك؟!
– هل يعني بأن الجهات الوارد ذكرها في التقرير لم تعد تخشى لا من قريب او بعيد افتضاح التجاوزات التي ترتكبها، وإنها لم تعد تعير اهتماما حتى (بلوى الحقائق) وتجميل الصورة الرديئة، اي لا كلام ولا أفعال ولا حلول للتجاوزات.
– هل يعني ذلك بأن تلك الجهات لم تعد تخشى المساءلة، وباتت تعمل على أساس انها محمية من المساءلة والحساب ومحصنة من أي جزاء او عقاب، وعلى أساس ان انتهاكات اللوائح والنظم لم تعد رجسا من عمل الشيطان؟!
– هل يعني ذلك ان المخالفات الجسيمة في الوزارات والمؤسسات الرسمية التي باتت مكشوفة حتى من ورقة التوت، والتي كشفت هزال من آلت اليهم مسؤوليات هنا وهناك وهنالك ليست كافية لنضع أصبعنا على جروح وآفات أصبحت ساطعة بعد ان بقيت زمنا غارقة في بئر.
بيت القصيد وبيت الداء ليس محصورا ومحشورا فقط في هذه الزاوية او تلك، بل هي بالإضافة الى ذلك في هذه المتاهات المستعصية وفي هذا الكم من الهموم التي لا تحصى ثقيلة الدم والوطأة التي بات واقعنا الراهن يزخر بها..لابد من عمل وطني مسؤول يكبح جماح التشاؤم..!!
الأيام 16 يناير 2012