في المفاوضات الخاصة بتحرير التجارة العالمية، لاسيما التجارة في السلع والتجارة في الخدمات، في إطار منظمة التجارة العالمية، لا تحبذ الولايات المتحدة وحليفاتها الدول المتقدمة، التفاوض على أساس مبدأ “التبادلية” الذي تعتمده عادة أطراف التفاوض للدول النامية، وإنما تفضل الدفع بمبدأ الإجراءات المتعادلة أو المتوازية في التفاوض على خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في إطار اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ .
ومع ذلك فإن المتتبع لمواقف الدول المتقدمة في الاجتماعات والملتقيات الدولية المكرسة للتفاوض على معالجة الاختلالات في الاقتصاد العالمي، سوف يجد أن المقاربة الأثيرة إلى قلوب المفاوضين الأمريكيين والأوروبيين خصوصاً هى مقاربة التوازن الاقتصادي العالمي المتمثلة، من وجهة نظرها، في عدم جواز استمرار تمتع الدول النامية الصاعدة بفوائض مالية وبموازين مدفوعات إيجابية في حين أنها تعاني عجوزات مالية هائلة واختلالات كبرى في موازينها التجارية وموازين مدفوعاتها .
هذا اللاتوازن في الاقتصاد العالمي لم يأتِ من فراغ، وإنما هو نتاج الممارسة الاقتصادية الحرة وفلسفة الاقتصادات المفتوحة التي ترفعها الدول الغربية إلى مراتب قدسية حين تتحدث عن فضائلها وتدعو لها ولتطبيقاتها، وهو ما فعلته الصين على أية حال في وقت متأخر (في النصف الثاني من ثمانينات القرن العشرين الماضي) والهند في ما بعد وبقية منظومة الدول النامية التي صارت تصنف اليوم ضمن ما تسمى بالاقتصادات الصاعدة .
وبسبب استرخاء وتراجع إنتاجية مجتمعات بلدان “العالم الأول” (الدول الرأسمالية المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا الغربية)، ومن جهة أخرى، تنامي إنتاجية ونمو مجتمعات عرفت بتميز ثقافتها الانضباطية في احترام الوقت والولاء للعمل والتواضع والموازنة بين الاستهلاك والادخار، كان لابد أن يعمل قانون التراكم الرأسمالي عمله، ويحيل دول الفائض إلى دول عجز ودول العجز إلى دول فائض، وهو الوضع الذي أضحى عليه ميزان القوى الاقتصادية العالمي منذ حوالي عشر سنوات، والذي درجت ماكينة الدعاية والإعلام الغربية على توصيفه بوضع اللاتوازن في الاقتصاد العالمي .
ولكن “اللاتوازن” الحادث في الاقتصاد العالمي هو في الحقيقة طريق ذو مسارين متعاكسين، بمعنى أن آثاره السلبية والوخيمة ليست حكراً على دول العجز، وهي هنا تحديداً الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، لاسيما الرئيسية منها مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، التي راحت شكواها تتعالى من اتساع نطاق هذه الظاهرة في ميزان القوى الاقتصادية، نتيجة لتراكم عجوزاتها وديونها في جانب مقابل تراكم فوائض ودائنية دول الفائض مثل الصين وبلدان جنوب شرق آسيا والهند وبعض الدول الأخرى الصاعدة في سماء الاقتصاد العالمي، في جانب آخر .
تمظهرات هذا اللاتوازن كثيرة ومنها تغير معدلات النمو الاقتصادي وبالتالي الطلب المحلي وبالتالي حجم العرض النقدي وبالتالي معدلات التضخم وبالتالي معدلات أسعار الفائدة البنكية . اليوم مثلاً أسعار الفائدة في الاقتصادات الغربية المتأزمة خصوصاً الاقتصاد الأمريكي تكاد تلامس القاع في محاولة من المصارف المركزية لتفادي الأسوأ من الركود، في حين أن الصين الواقعة على الطرف الآخر من معادلة اللاتوازن تتعرض لضغوط تضخمية غير عادية إذا لم يحسن بنك الصين (البنك المركزي الصيني) التعامل معها بسرعة فإنها يمكن أن “تقضم” جزءاً عزيزاً من الفوائض ومن الثروة الصينية ومن الثقة العالمية، خصوصاً الاستثمارية في الاقتصاد الصيني .
وعلى ذلك فإن اللاتوازن الاقتصادي العالمي يحمل في طياته تهديداً “مبطناً” لدول الفائض أيضاً وليس لدول العجز فقط .