المنشور

الربيع العربي وسؤال الهوية – عبدالله حسن العبد الباقي


في هذا الربيع العربي  ،الذي فرض ذاته على كامل الكرة الأرضية  ، وتحولت فيه ميادين التحرير والتغيير  الى أيقونة عالمية  يحتذي بها شباب العالم  ، كان الشباب العربي ، من خارج السلطة ومن خارج قوى المعارضة التقليدية ، هو الصاعق والمحرك والفاعل والمبادر والرائد والقائد والمضحي بدمه . بقية الشعب وبقية القوى التحقت بثورتهم بعد ان كسروا هم حاجز الخوف . هذا الشباب لم ينتفض فقط من اجل لقمة العيش بل من اجل انتزاع حريته وتحقيق كرامته. إنها ثورة الكرامة .

صفعة الشرطية للبوعزيزي  ، كانت اهانة لكرامته  الإنسانية . تلك الاهانة التي رفضها ورفض الحياة التي تجعل منه مهانا ومذلولا وخانعا ومستسلما . وقد انتفض الشباب من اجل استعادة تلك الكرامة المنتهكة . وخرجوا بصدورهم العارية رفضا لاستمرار الخنوع الذي اصبح ولا زال ، في العديد من الدول ، هو السمة السائدة نتيجة التعامل المهين للمواطن العربي في بلده ونتيجة التهميش والاقصاء واستمرار الفساد المكشوف والنهب المتواصل من قبل السلطات العربية المستحوذة على كل مصادر القوة في ظل تزاوج مقيت بين السلطة والثروة .

الشباب هنا بفعلهم هذا  ، قالوا رسالة واضحة لجميع  الجيل القديم بما فيهم قوى المعارضة التقليدية ، مفادها انكم جيل خانع ذليل  وانكم فشلتم في بناء اوطان نفتخر ونعتز بها بين الأمم وها نحن ننتفض لاستعادة تلك الكرامة .

الكرامة هنا مرتبطة كل الارتباط بمفهوم الهوية المنتفضة على ذاتها والتي ترفض الثقافة القديمة و سلوك الخنوع والذل  المرتبط بها . انها انبعاث جديد لهوية مغيبه قسرا من قبل السلطات السياسية التي تمثل مافيات مرتبطة باعداء الهوية المستلبة . والتي لا يريدون لها ان تتواجد بين هويات الامم الأخرى .
ولتتحقق تلك الكرامة ( الهوية المنتفضة ) لا بد من تحقيق أمور عده تشمل ليس فقط إزاحة قمة السلطة القديمة وإنما تغيير النظام بالكامل، وهو شعار رفعه الشباب وأصبح جزءا من تلك الأيقونة، بل أصبح الشعار المشترك لكل الثورات ” الثورة “. الأمر الذي يعني بناء اقتصاد قوي منتج ومتماسك وقادر على التشغيل ، ويتطلب إطلاق الحريات العامة وبناء وإرساء دولة القانون والمؤسسات وضمان المشاركة الشعبية الواسعة التي تحقق دولة المواطنة لا دولة الرعايا والتابعين . وذاك لا يمكن تحقيقه بدون ثورة في التعليم والاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية والفنية وفي كل شئون الحياة لتكون نتيجته هوية محددة المعالم والصفات . ، بل ايضا من خلال  قدرة الشعب االعربي على التصدي لأعدائه الداخليين والخارجيين والذين يعملون من أجل مصالحهم على حسابنا وعلى الضد من كرامتنا ، و الذين يعملون  من أجل إذلالنا وسلب حقوقنا بكل غطرسة . وهنا يبرز العدو الصهيوني الغاشم الذي مارس الاذلال والتركيع على سلطاتنا وشعوبنا وبمساعدة وتآمر الغرب الرأسمالي  باعتبارهم اعداء حقيقيين لهذه الثورات ، ليس فقط من خلال دعمهم للأنظمة القمعية والشمولية والفاسدة ، بل من خلال الاحتلال المباشر والاستيطان والتهجير  والقمع والقتل على رؤوس الأشهاد . ولا أعتقد ان الكرامة التي اراد تحقيقها الشباب العربي تقتصر على ازاحة بعض رموز السلطة والفساد بل هي بالضرورة تتضمن مواجهة أعدائنا الحقيقيين والذين لا يريدون لهذه الكرامة ” الهوية ” ان تنبعث. 

الشباب العربي ، أراد القول بوضوح انه لا يختلف عن بقية الأمم والشعوب ، وانه يمتلك من الإمكانيات الذهنية التي لا تختلف عن بقية الشعوب ان لم تتفوق عليها بدليل صنعه للثورة التي عمل أعداء الأمة بكل امكاناتهم من اجل ألا تأتي . الشباب العربي أراد ان يستعيد كرامته التي غابت لغياب هويته العربية الفاعلة في التاريخ والناتجة للتجهيل والتعطيل والإذلال.

انه يعرف انه لا يستطيع تحقيق كرامته داخل وطنه وهو مذلول من قبل قوى خارجية لا  تتعامل معه  بتكافؤ وندية ، ولا يستطيع ان يحقق كرامته وغذاءه ينتجه الآخرين وكذا ملبسه واداواته وسلاحه وكل ما يستخدم هو من صنع الغير ، مما يجعله مرة أخرى رهينة بيد الآخرين . وبالتالي يفقد الكرامة التي انتفض من أجل استعادتها .

الأمر الذي لم يتبلور بعد ،هو استيعاب حقيقة أساسية ومهمة وهي ان اي بلد عربي على حدة ، بما فيها مصر وسوريا والعراق واليمن وهي بلاد حضارات قديمة ، لا يستطيع ان ينهض حضاريا ويكون شخصية ناهضة وقادرة على التنافس بدون العمق العربي وارتباطه بهويته العربية التي تجسدت بكل وضوح في الربيع العربي لا المصري ولا التونسي ولا السوري ولا اليمني ولا اي مسمى لبلد ، انه ربيع عربي، وخصوصا في ظل  المنافسة الشرسة للتكتلات الاقتصادية الكبرى الدولية والإقليمية ، والذين ليس لديهم مانع من ان تحصل على بعض الحريات العامة في داخل كل بلد لكنهم يعملون من اجل ابقاءك مجرد سوق لمنتجاتهم  وخصوصا الغرب وامتداده اسرائيل الحريصين كل الحرص على إبقاء شعوبنا رهن التبعية الاقتصادية ورهن هيمنة وغطرسة اسرائيل ، التي انشأت وزرعت في الوطن العربي من اجل منع وحدتنا وزعزعة استقرارنا .
” أتمنى الاستماع لمحاضرة الدكتور عبدالرحمن العصيل بعنوان لا تنسوا اسرائيل التي لا نعرف ” ليتضح لكل ذي بصيرة الدور المناط بإسرائيل في المنطقة وهي  بالمناسبة موجودة على اليوتيوب .

  الحقيقة التي لا تخطؤها العين ان ثورة تونس انتشرت كالنار في الهشيم ممتدة الى مصر واليمن والبحرين وليبيا وسوريا والمغرب والاردن لان الشباب العربي واحد يمارس علية ذات الذل وبقية الشباب العربي لا يختلف عن اخوته في كل مكان . كلهم في الهم عرب خاضعين للذل الداخلي والخارجي ويتأثرون ببعضهم ، ورغم قيام ثورات في العديد من دول العالم منذ سقوط النظام الشمولي في “الدول الاشتراكية ” الا انهم تأثروا ببعضهم لانهم امة واحدة كحقيقة موضوعية لا يمكن انكارها . بل ابعد من ذاك انهم يعيشون تحت انظمة بذات الصفات ورفعوا ذات الشعارات ولهم ذات المطالب.

ـ كيف السبيل لتحقيق الهوية اذا :

ما اود التنويه اليه هنا هو ضرورة معرفة القرية الكونية ” العالم ” بشكله الشامل ، بمعنى ضرورة معرفة القوى الدولية والاقليمية ورؤية هذه القوى من منطلق مصالحها واستراتيجياتها وموقع العالم العربي في تلك الاستراتيجيات ، لان كل الدول والكيانات فخورة بقوميتها وتدافع عن مصالحها وفي السياسة كما هو معروف ، ليس هناك صداقات دائمة بل مصالح دائمة والفارق بين هذه الدولة او التكتل اوذاك هو في موقعها الجغرافي السياسي ومقدار الثروات ونظام الحكم ومن يمثل من الطبقات في بلده.

الغرب عموما واسرائيل جزء لا يتجزأ منه همه من منطقتنا النفط والحفاظ على اسرائيل وتكريس بلداننا كسوق لمنتجاته وخصوصا ان انظمة الحكم في هذه البلدان تمثل واحد في المئة من شعبها كما رفع شباب احتلوا في تلك البلدان  وهم القوى الرأسمالية العسكرية والمدنية والتي هي في طريق الاحتضار نتيجة الازمات الاقتصادية البنيوية العميقة وفشلها عسكريا ايضا امام منافسيها ونتيجة ازمة الديون التي وباعتراف الغرب ذاته غير قابلة للحل الجذري ويجري استغلال شعوبنا لمحاولة تأجيل التراجع عن القمة ان لم يكن الانهيار .

هناك الصين العملاق الاقتصادي القادم والذي هو الآخر يدافع عن مصالحه الإستراتيجية وبالتحالف مع دول بريكس التي تشمل روسيا والهند والبرازيل وجنوب افريقيا وهي الدول ذات الاقتصاديات الصاعدة وكلها تدافع عن مصالحها وكل المؤشرات تدل على بزوغ هذه القوى ودخولها عالم المنافسة وازاحة الهيمنة الامريكية والغربية وفتح المجال لتعددية قطبية لن تستطيع فيها الولايات المتحدة ان تقرر مصير الكون كما فعلت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.

وفي الاقليم هناك ثلاثة دول مهمة وفاعلة ومنافسة اقليميا وبالتعاون مع القوى الدولية هي ايران وتركيا واسرائيل ، وكل دولة من هذه الدول تعمل من اجل تحقيق مصالحها القومية ، تركيا تعمل من اجل مصلحة القومية التركية وبالذات البرجوازية منها وتعمل ليل نهار من أجل  ترويج بضاعتها وتوسيع نفوذها القومي وبالتحالف مع الغرب ، اما إسرائيل فليس هناك عربي لا يعرف من هي وموقعها منا ، وهناك ايران التي هي الأخرى تعمل من اجل مصلحتها القومية وتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي في مجالها الإقليمي . كل هذه الدول اذا تسعى من اجل تحقيق مصالحها ، السؤال هنا من المسؤول عن الدفاع عن مصالح العرب ؟ هل ننتظر من الآخرين الدفاع عنها ، ام انها مسؤلية اصيلة لا يجب التخلي عنها؟الم يأتي هذا الربيع العربي لانتزاع الحرية وتحقيق الكرامة ؟ هل يمكن تحقيق الكرامة بدون وجود حضاري يدافع عن مصالح وقيم العرب ؟ والسؤال الأكثر أهمية هو من هي القوى الفاعلة على الساحة العربية التي تستطيع تحقيق هذه الهوية الحضارية ؟

القوى الفاعلة في الساحة والمطلوب منها :

عند الحديث عن القوى الفاعلة سياسيا في الساحة العربية التي تقف السلطات على الضد منها باعتبار مجمل السلطات العربية تمثل مصالح القوى الدولية او الاقليمية وتتطابق مصالحها مع تلك المصالح، وهي بالتالي معادية بطبيعتها للكرامة والهوية العربية والربيع العربي لم يأتي الا من اجل إزاحتها.

هناك ثلاث قوى أساسية تعمل وتؤثر في الشارع العربي وان بشكل متفاوت نتيجة ظروف المنطقة وطبيعة هويتها . هذه القوى هي قوى الاسلام السياسي والقوى القومية والقوى اليسارية .ومن وجهة نظري  ورغم الادعاء مؤخرا بوجود قوى ليبرالية الا ان الليبرالية بمفهومها القومي والطبقي لا يمكن ان تنشأ في بلدان غير منتجة وغير مصنعة ، ما هو موجود هو برجوازية كمبرادورية همها تسويق منتجات بلدان أخرى وهي بطبيعتها ومصالحها مرتبطة بمصدر بضائعها الذي هو الأجنبي الذي تستورد منه بضاعتها وبالتالي ليس من همها خلق هوية حضارية عربية.

ما هو الخيط الجامع الذي يربط الاسلاميين بالقوميين باليساريين ، انها هذه الهوية الحضارية التي بدأ بزوغها بالربيع العربي ، لكنها تحتاج الى البرامج والخطط  والاستراتيجية التي توصل الى بناء هذه الهوية . وهنا على الاسلاميين بكل تفرعاتهم اخوانهم وسلفييهم سنتهم وشيعتهم ان يتذكروا جيدا ان النبي عربي والقرآن عربي ولا تقبل صلاة مسلم الا بالعربي وان ابوبكر وعمر عربيان وعلي والحسين عربيان وهذا يضع عليهم مسؤولية كبرى باعتبارهم الاكثر معرفة بلغتهم وبالتالي الاكثر معرفة بكتابهم المقدس وعليهم ان يقدموا مشروعهم الاسلامي الحضاري  العربي المتوافق مع العصر والاكثر حرية وعدالة من الاسلام التركي او الفارسي او الماليزي او غيرهم ، عليهم ان ينتفضوا على مفاهيمهم القديمة وينتجوا فكرا تنويريا ذو مواصفات ونكهة عربية احتراما لعروبة نبيهم وقرآنهم الذي دعى إلى العدل والرأفة والإحسان والمغفرة والذي طرح قبل كل المواثيق الدولية  ” من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ” والذي طرح بوضوح ان لا اكراه في الدين بل ان الحرية شرط من شروط الايمان ذاته.

اما القوى القومية فعليها مراجعة وتقييم تجارب الحكم التي مارسها ” القوميين ” منذ تجربة عبد الناصر ذات الايجابيات والسلبيات  مرورا بتجارب البعث التي كانت شوفينية وفاشية وتحولت الى عائلية ووراثية، ومن اجل الوصول الى فكر قومي مدني ديمقراطي ومدافع في ذات الوقت عن الهوية العربية الناهضة وتحقيق دولة عربية قائمة على مراعاة مصالح كل الشعب العربي وتراعي الفوارق والتباينات بين أجزاء الأمة وتعمل بشكل تدريجي ولكن برؤية استراتيجية وعلى الأسس الطوعية وصولا إلى دولة عربية واحدة قادرة على المنافسة والابداع والابتكار والتصنيع والانجاز.

وعلى اليسار العربي ان يستوعب المكونات الثقافية والروحية للشعب العربي ، مراعيا دور الإسلام كدين للاغلبية ومراعيا القومية التي خلقت على الدوام التفاعل والتأثير المتبادل بين العرب  وعليهم تذكر ان من لا يكون وطنيا حقيقيا لا يمكن ان يكون امميا حقا وان العدالة التي يسعون الى تحقيقها على المستوى الإنساني والطبقي يمكن تحقيقها عبر إبداعهم في معرفة الطبيعة الثقافية والحضارية لبلدهم العربي المسلم.
الهوية القومية هي ذلك الهدف المشترك والموجود في ضمير كل الذين يعيشون على هذا التراب بغض النظر عن تياراتهم التي عليها ان تتنافس من اجل إعلاء شأن هويتهم وكرامتهم .
 
اعرف ان الصراع لا زال في بداياته ، واعرف ان قوى الثورة المضادة ستظل تعمل ليل نهار من اجل اجهاض الثورة العربية وبالتحالف مع اعداء الامة ، لكنني مؤمن بقدرة الشباب العربي على الصمود واجتراح المعجزات وسيواصل ثوراته مرات ومرات وسيكشف عبر كل التجارب الآتية وخصوصا القضية الفلسطينية اعداءه الداخليين والخارجيين وسيحاربهم وسينتصر .

هذا هو منطق الأمم الأصيلة التي لا تموت وان كبت لفترات طويلة . لذا انا واثق من أن الهوية العربية ستعود ناهضة بين الأمم ولو بعد حين.
 
منبر الحوار و الإبداع
عبدالله حسن العبد الباقي
كاتب وناشط اجتماعي
المملكة العربية السعودية