على مدار عقود من تطور البحرين تشكلت في البلد شرائح واسعة من المتعلمين والتكنوقراط والكفاءات الإدارية والعلمية في المجالات المختلفة من اكاديمين وإداريين وأطباء ومهندسين، ومن المبدعين ومنتجي المعرفة والثقافة، من مختلف التحدرات الاجتماعية، وبعيداً عن انتماءها لهذا المكون أو ذاك من مكونات المجتمع.
وكان لهذه الشرائح المتميزة بالذكاء والطموح والعصامية والكفاءة دور مهم في تشكيل صورة البحرين الراهنة، وكما في كل المجتمعات المشابهة في خصائص التطور السيسوثقافي فان هذه الشرائح من الفئات الوسطى هي ميزان المجتمع الضابط لتطوره المتوازن، الذي يسهم في استقراره وتقدمه.
ومن الطبيعي أن أنماط الوعي والسلوك لدى هذه الفئات تتفاوت بين بيئة وأخرى، وتخضع لمؤثرات مختلفة تجمع بين المؤثرات التقليدية والحداثية، ولكن طبيعة تخصصات أفرادها وصلتهم بمنجزات العلم والتكنولوجيا والثقافة تجعل منهم على تواصل مع منجزات الحداثة، حتى لو لم يتواءم وعيهم الاجتماعي والثقافي في بعض الحالات، وليس كلها، مع شروط هذه الحداثة، دون أن يفقدهم ذلك تصنفيهم كمكونٍ مهم من مكونات الفئات الوسطى في المجتمعات النامية.
في البحرين، كما في دول الخليج الأخرى، أنفقت الحكومات مبالغ كبيرة في تأهيل أفراد هذه الشرائح الذين تلـَقى العديد منهم تعليمهم في جامعات راقية، وتربوا في مستشفيات ومعامل متقدمة، وامتلكوا مع الوقت خبرات يُعتد بها في مجال عملهم يعرفها كل من هو على صلة، حتى لو كانت بعيدة، مع هؤلاء.
من بين النتائج السلبية التي شهدتها البحرين في الشهور الماضية أن العديد من ممثلي هذه الشرائح، مثل الأطباء والمعلمين والمهندسين وأساتذة الجامعة والكتاب وسواهم، واجهوا ظروفاً صعبة، نتيجة إعتقالهم وتعريضهم للتعذيب، وفصلهم أو إيقافهم عن أعمالهم، نتيجة المبالغة في توجيه التهم إليهم، وجاء تقرير اللجنة البحرينية لتقصي الحقائق ليُنصف هؤلاء، ويدعو لإعادة النظر في الإجراءات المتخذة ضدهم، من أجل إحقاق الحق، حين قدر أن الكثير مما وُجه إليهم من تهم يندرج في إطار حرية التعبير عن الرأي والموقف.
للوطن مصلحة كبرى، على أكثر من صعيد، في تسوية الأوضاع الإنسانية لهؤلاء بسرعة إعادتهم إلى أعمالهم والى ممارسة التخصصات النادرة التي كانوا يؤدونها، والعمل بما نصت عليه توصيات اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق في مراجعة الأحكام والإجراءات التي صدرت ضد الكثيرين منهم، والتي تتعلق بحرية التعبير عن الرأي، وإسقاط التهم التي لم يتم البت فيها ضدهم.
نقول على أكثر من صعيد لأن الأمر لا يتعلق بإنهاء معاناة هؤلاء فقط، وإنما أيضاً في الحفاظ على كوادر وطنية جرى الاستثمار في إعدادها طويلاً ولا يجوز التفريط بها، فهم ثروة للوطن كله، والمؤمل أن يكون إعلان النائب العام عن إسقاط اتهامات حرية الرأي عن 334 متهماً قد شمل، فيمن شمل، هؤلاء.
ونظل نقول أن المعالجة المسؤولة والرشيدة لهذا الملف تنم عن بُعد نظر نحتاجه في هذه المرحلة الدقيقة، لكي نعبر بالوطن هذا البرزخ الدقيق نحو أفق الحل السياسي، الذي لن يتم إلا عبر مصالحة وطنية، تكون أشبه بالتسوية التاريخية، التي تتعلم من التجارب القاسية التي مررنا بها، وتحول دون تكرارها.