حينما كانت العصا الغليظة تلاحق الشرفاء من أبناء هذا الوطن الذين امتلأت قلوبهم بمشاعر حب الأرض وأحلام الفقراء كان جمال مرهون واحداً من هؤلاء المدافعين عن الحق والعدالة.
في تسعينيات القرن الماضي عندما هاجرت أسراب الطيور إلى الشطآن البعيدة دون رجعة أصر كغيره إصراراً قوياً على ركوب القطار حتى محطته الأخيرة. في حينها ازداد جمالاً ووعياً تطل منه أشعة الشمس في زمن مختلف انتشرت فيه الخرافة والشعوذة والتصفيق الحار للعمامة واللحى.. كان قلبه ينبض دائماً بالتفاؤل والدعابة وبإحساس يحمل بين صفحاته رؤى المستقبل وحكايات كانت فصولها تحكي عن تحرر المرأة وحقوق الكادحين والمزارعين وكل الفقراء. كان الزمن قاسياً ومع ذلك لم تتسع دائرة الطائفية كان الايقاع يعزف ألحاناً مليئة بالحب والأمل والتسامح والعشق الابدي للأرض والحياة.
في أحد المساءات الحارة الرطبة كانوا ثلاثة كالنسمة الباردة في وقت الظهيرة.. كانوا يبحثون عن الشواطئ الآمنة وعن عناوين الزمن القادم، ولما تعالت كلماتهم المستاءة من حكايات السقوط والسفن الغارقة في مياه الخليج واندفاع السحب الهاربة نحو الأفق كانت اجسادهم تحفظ الشعلة من الانطفاء. وفجأة ونحن في صحن الدار تنفس جمال عميقاً وهو يتأمل تلك النشوة الغامرة التي بدأت تسري في جسدي.. في ذلك الوقت كانت المدينة التي يلفها سواد الليل تفوح منها رائحة التخوين والتأثيم الكريهة والانشداد نحو خطاب تدير دفته محاكم التفتيش.. وفجأة ايضاً قال الثلاثة وبصوت واحد: الزمن يجب أن لا يتوقف عند حدود الانكسار والانهيارات المروعة فالشمس لابد لها أن تشرق من جديد، فهل يعقل بعد كل هذه العقود المتخمة بالجراح أن تتوقف عجلة القطار؟
ما حدث كان ثقيلاً هكذا قال جمال بصوت مرتفع.. كان غاضباً أشد الغضب من تلك الحواجز والقيود والظلم والرحيل والكهوف المظلمة، شعرت في لحظة أن الثلاثة الذين انشغلوا بهموم المجتمع والوطن تعاهدوا وهم على مقاعد الدراسة في بونا على المضي قدماً في نصرة الحرية والاحرار في كل بقاع الارض.
في تلك الجلسة الدافئة قيل الكثير عن المدن المكتظة بالوجوه البائسة وعن الفرح والزهور الحمراء التي تغسل كل صباح بماء المطر وعن الأمكنة البعيدة المثقلة بالخوف والكوابيس والرقص على جثث الاطفال والفقراء وعن الصفقات التي تجري خارج اسوار تلك المدن. بعد لحظة سادها صمت مفاجئ كان السؤال يقفز من فم جمال باهتمام صارم: في هذا الزمن الذي ضاقت فيه المساحات وأوصدت الابواب ما الذي ينبغي أن نفعله؟ وبإيجاز شديد ما العمل؟ كانت تساؤلاته بداية الخيوط تكشف عن الوفاء للحبيبة والوطن.. كانت أنفاس الجميع متلاحقة تنتفض بنفضات سريعة.. كان الثلاثة بين لحظة ولحظة يتراشقون النظرات كما لو أنهم فوضوا أبا أمل أن يبحر بهذا السؤال في المياه الراكدة.. بعد جدال ازداد اتساعاً وتشعباً ارتسمت ابتسامات عريضة على محيّا الجميع بعدها كان الإصرار على الإبحار في أعماق البحار من جديد فجر قصائد مطلعها الوطن للجميع..
لا أدري لماذا استحضرت ذاكرتي هذا المشهد بالذات؟ هل جمال الذي حزنا عليه حزناً عميقاً كان رمزاً للوفاء؟ حقاً كان رمزاً للوفاء والتفاني.. هكذا قلت في نفسي في حين كان جسده الذي رضع الوطنية من ثدي عائلة كريمة ذات تراث وطني ناصع البياض محمولاً على الأكتاف تصاحبه الحسرات والمشاعر المشحونة بالألم والوجع.
بعد صراع مع المرض لم يمهله كثيراً مات جمال، مات وعيونه تحدق في المدينة التي أرهقها وباء الطائفية والفقر والتسكع في الأزقة الرثة والشعارات النارية التي تدفع نحو العنف والتكتل الطائفي لقد غادر أبو أمل ولم يغادر لأنه سيظل اسمه محفوراً في ذاكرة الحبيبة والوطن.. عزاؤنا لأسرته ولعائلة مرهون الكريمة ولأصدقائه وكل الرفاق في منبرنا التقدمي.
الأيام 17 ديسمبر 2011