كأن الأمور إذا كثر تكرارها، على صعيد الأقوال، دون أن ترافقها أو تتبعها إجراءات تفقد مع الوقت شحنة المغزى التي كانت لها، وهذا ينطبق على أشياء كثيرة، ولكنه بصورة تكاد تكون نموذجية ينطبق على التقرير السنوي لديوان الرقابة المالية، ليس لأنه لا يحمل في كل نسخة من نسخه السنوية جديداً، فما أكثر الوقائع التي يكشف عنها التقرير، بحرفية عالية، والحق يقال، ولكن هذا الجديد لا يمنع التكرار، أو فلنقل التشابه الذي ينطوي عليه التقرير في كل سنة، بحيث لا يبدو مجدياً كثيراً إعادة تفصيل ما حمله التقرير الجديد، فمن حيث الجوهر تظل المعطيات والوقائع وحتى التشخيصات واحدة، هي هي، كما كانت في الأعوام المنصرمة.
والعلة هنا ليست في التقرير ولا في واضعيه الذين يستحقون كل الثناء على جهودهم، وإنما في أن المعضلات التي يُشخصها الديوان الذي يضع خبراؤه ودققوه ومحققوه تقاريرهم كل سنة، تظل دون معالجة، سواء كانت على شكل تدابير تمنع تكرار ما سبق أن أشير إليه من تجاوزات وتعديات على المال العام، أو على شكل إجراءات محاسبة للمسؤولين عن هذه التجاوزات والتعديات، ولأنهم أمنوا العقاب، صاروا يتعاطون مع التقرير بمنتهى الاستخفاف، والإصرار على العودة لممارسة الخطأ نفسه، وليس أدل على ذلك من أن الوزارات المعنية ترتكب، حسب التقرير الجديد، التجاوز الذي كان قد أشير إليه في التقرير السابق، أو حتى في التقارير السابقة، في عزم مع سابق الإصرار على عدم تصحيح الخطأ، كأن لسان الحال يقول: ليكتب في التقرير ما يكتب، لكننا سنفعل ما نراه مناسباً.
وكما في كل سنة، حين يصدر التقرير، تتوجه الأنظار نحو مجلس النواب، بصفته السلطة الرقابية المعنية قبل سواها، بمناقشة ما يقدمه التقرير لها من معطيات كفيلة بتشكيل عدة لجان للتحقيق مع وزراء ووزارات وأجهزة حكومية أخرى، بشكل يضفي المصداقية لا على الجدوى من إصدار التقرير نفسه، وإنما على دور مجلس النواب نفسه، ولا نحسب أن المجلس الحالي سيكون أفضل حالاً في التعاطي مع التقرير الأخير عن المجالس السابقة، لأن العبرة ليست في الوقائع التي تتضمنها مثل هذه التقارير، وإنما في الطريقة التي علينا أن نتعاطى بها مع هذه الوقائع.
وبمرارة شديدة نقول أن هذا التقرير بات حدثاً موسمياً، فيه رتابة الأحداث الموسمية على نحو ما كتب زميلنا غسان الشهابي، فعندما يصدر التقرير تحتفي به الملاحق الاقتصادية للصحف، ويكتب حوله مقالان أو ثلاثة هنا أو هناك، مشفوعة بتصريحات لفعاليات نيابية واقتصادية، ثم ينفض السامر فيذهب التقرير السميك بعدد صفحاته المثقلة بالوقائع الدامغة إلى أحد الأدراج، لعل باحثاً يحضر للماجستير أو الدكتواره يعوزه كمصدر من مصادر بحثه، فيما تظل الوقائع كما هي على الأرض، تتفاقم وتنبني عليها طبقة فوق طبقة من التجاوزات نفسها، في تكريس للانفصام الذي لا يبدو أن لنا شفاءً قريباً منه، بين ما يكتب على الورق ويمارس في الواقع، لنعيد الموال نفسه بعد عام، ونقول ذات القول.
18 ديسمبر 2011