أقف عند مقالة البروفيسور فالح عبدالجبار في صحيفة «الحياة» يوم الأحد (11 ديسمبر/ كانون الأول 2011) بعنوان «الأصولية والديمقراطية» إذ جاء في مطلعها: «ما فعلته حركات الاحتجاج الاجتماعية (لم يقل السياسية) في العالم العربي، هو فتح القلاع الأوتوقراطية التي تذكرنا مداخلها ببوابات الحديد المسنن التي تحمي قلاع الأمراء القروسطيين في أوروبا. هذا الفتح إنجاز عملاق بكل المقاييس. والخشية من الغليان القابعة وراءه لا تبرر الإحجام عن أو التردد في قلع الأبواب؛ أو الندم عليه».
الحركات الاحتجاجية في العالم العربي، لم تبرز هكذا بمحض الصدفة؛ أو هبطت بمظلة من مكان قصيّ ومجهول. أتت بعد عقود من المصادرة وتأميم الإرادات والأرواح والخيارات. أتت بعد عقود من السرقات والقمع والتجاوزات والاستباحات. ومازالت الأنظمة العربية ترى في الحركات الاحتجاجية تلك صفاقة وقلة أدب وانعدام تربية في التطاول على أولي الأمر؛ فقط لمجرد الاحتجاج؛ لأنه يراد لتلك الجماهير أن تموت بشكل جماعي، وفي هدوء تام، حسرة وغصّة للأحوال التي آلت إليها، ثم عليها ألاّ تقلق نوم أولي الأمر؛ لأن ذلك من أكبر الكبائر عند الله وأنبيائه ورسله والراسخين في العلم والقناعة في الوقت نفسه.
تنظر إلى خريطة الاقتصاد لتتأكد أن الجغرافية العربية لا تعاني من شح في الثروات أو الموارد. الذي يراد السكوت عنه، أن مجمل تلك الثروات وعوائدها تذهب إلى النخب الحاكمة، ولتمت الشعوب ولتعان الأمة من سوء التغذية أو عسر الهضم حتى في بلع ريقها.
تنظر إلى خريطة التعليم، مقارنة بحجم الثروات فلا يصدمك المشهد؛ لأن الموازنات مخصصة للحروب المقدسة: مواجهة احتجاجات كالتي تشهدها جغرافيتنا العربية.
تنظر إلى خريطة الخدمات الصحية فلا تفاجأ بفقر الدم والاضطرابات النفسية. تنظر إلى خريطة الحقوق فلا ترى إلا بلقعاً، والبوم هو الحمام فيها.
تنظر إلى خريطة «الخيار» فلا ترى إلا بصلاً وثوماً وكل مشتقات الرائحة، وليست أي رائحة! ويراد لتلك الشعوب أن تأوي إلى نومها مبكراً، وأن تقرأ المعوذات، وألا تنسى الدعاء لمن يساهم كل يوم في استمرار كوابيسها! والذين يتحدثون باسم الدين وادعاء الوكالة عن الله جاهزون بنصوص لن يجدوا رفة رمش لضمير حين يمارسون التأويل الذي يرونه غير جائز في موضع وجائزاً بل واجباً في مواضع بحسب الظرف والمصالح!
هذا الجزء من الجغرافيا منشأ ومنبع الكوميديا السوداء. الكوميديا التي لا تنتهي ويبدو ألا مؤشر على انتهائها باستمرار وغلبة الذهنيات والعقليات التي تهيمن على جماهير تظل تنظر إليها باعتبارها قطيعاً لا حول له ولا قوة. ذهنية كتلك تراهن على زوالها أكثر من مراهنتها على زوال تلك الاحتجاجات التي تأخرت لأكثر من ستة عقود من وهم ومهزلة ما يسمى بالدولة المدنية المزعومة. تأخرت لدرجة اعتقد كثيرون أنها بالفعل قطيع بهويات ومسميات وظيفية وأحياناً من دون ذلك.
نعم، هذا الجزء من جغرافية العالم منشأ ومنبع الكوميديا السوداء من دون أن ننسى الدم الذي يراق بسهولة، سهولة إراقة الماء على الأعتاب أول الصباح. هذه الجغرافية هي المنشأ بسبب بعض حراس النصوص ومفسريها. بسبب من اختطفوا حراسة الدين، الذين يسهمون اليوم في شرعنة القتل بالجملة والذهاب إلى آخر الشوط في مهرجانات الدم.
من طبيعة الإنسان الجنوح إلى السلم، ومن طبيعته في كثير من الأحيان التغاضي عما يراه ليس ضرورياً وأساساً من حقوقه، ومن طبيعته أيضاً أن ذاكرته لا تنسى وتختزل كل ما تنازل عنه عن طيب خاطر، ولكنه لن يحتاج إلى الاتكاء على ذاكرته كي يسترجع ما تنازل عنه عن طيب خاطر، ولن ينتظر اللحظة التي تهينه وتضعه في مرتبة دون الأشياء.
البروفيسور فالح عبدالجبار الذي بدأت مقالتي باقتباس مطلع مقالته: «الأصولية والديمقراطية» وصف الحركات تلك بالاجتماعية – ليس تحيزاً لاختصاصه – والأنظمة السياسية العربية تصر على أن قوى خارجية ترفد المعارضة السياسية في الداخل حتى بخطاباتها وليس بأساليب احتجاجها ومعارضتها!
العام 2011 أفرز حركات احتجاجية اجتماعية باغتت القوى الرئيسة في المعارضة قبل أن تباغت الأنظمة التي احتجت ومازالت تحتج عليها؛ إذ كثير من قوى المعارضة كان بمنأى وانفصال عن تحركات الشارع وتفاصيل معاناته.
«الربيع العربي» ميزته أنه انطلق بتحركات احتجاجية اجتماعية وذلك ما يمنحها حقاً وبراءة في صدق المطالب وتوجهها مهما احتقنت أوداج المكنة الإعلامية العربية الرسمية بوصم المحتجين بالخوارج والإرهابيين وقيام أكثر من معركة جمل هنا وهناك وقاموس من الشتائم الذي تظل متمكنة منه؛ إذ تلك موهبتها الوحيدة في الحياة
صحيفة الوسط البحرينية – 15 ديسمبر 2011م