كثيرون، على ما يبدو، لا يريدون أن يستوعبوا بعد أننا في مرحلة ما بعد صدور تقرير اللجنة الوطنية المستقلة لتقصي الحقائق، الذي تعارفنا على تسميتها بلجنة بسيوني، وبالتالي فإنهم يصرون على مواصلة التخندق في الاصطفاف الذي نشأ كنتيجة للأحداث التي شهدتها البلاد في المرحلة السابقة، والإمعان في تقسيم المجتمع البحريني إلى فريقين، فريق الدوار وفريق الفاتح، في إعادة إنتاج ممجوجة للخطاب التحريضي الذي ساد طوال شهور، واحدث ما أحدث من شرخ طائفي عميق في المجتمع.
الدولة، ممثلة في جلالة الملك، أعلنت تبنيها لما جاء به التقرير من وقائع ومن توصيات، وفي أكثر من مناسبة عبر العاهل عن حرصه على أن تجد هذه التوصيات طريقها للتنفيذ، ولكننا، رغم ذلك، نجد من يجادل في أن أننا لسنا ملزمين بهذه التوصيات، وأن الدولة حرة في أن تطبقها أو لا تطبقها.
وفي هذا انحراف عن الأهداف التي نشدها جلالة الملك حين أراد من تشكيل اللجنة ومن إصدارها لتقريرها أن يؤسس لخريطة طريق تُخرج البلاد من أزمتها، مستنداً في ذلك على ما للجنة من صدقية دولية ومحلية، أهلتها لأن تكون جهة مقبولة من الأطراف المختلفة التي نظرت إليها كجهة محايدة هدفها مساعدة البحرينيين على تجاوز مناخ عدم الثقة الذي يهيمن على المجتمع.
آن الأوان لكي يدرك الجميع أن مرحلة ما بعد صدور التقرير تتطلب خطاباً آخر يضع نصب عينييه مصلحة البلد العليا ومستقبلها في أن تعبر برزخ المحنة بدون خسائر إضافية، فما خسرته البحرين كان مكلفاً على كل الأصعدة، الإنسانية والمعيشية والاقتصادية والمجتمعية، وما لم تتحرك نوازع الضمير عند الجميع في إنقاذ البلاد من الأزمة، فإننا سنظل نراوح في المكان نفسه، ومن التجربة تَعلمنا أن المراوحة، هي في نهاية المطاف، عودة إلى الخلف، فيما البلد بحاجة لأن تذهب للأمام.
هناك من استمرأ لعبة التشفي والتحريض تحت رايات مذهبية وطائفية أو حتى سياسية ولم يعد بوسعه أن يغادرها، لأن مهمة مداواة الجروح أصعب بكثير من مهمة نكأها المستمر، وإزاء ذلك فان المجتمع بحاجة للحذر واليقظة إزاء هذا النوع من الخطابات، بأن يفطن إلى أن لا مستقبل للبحرين خارج سياق المصالحة الوطنية التي تتطلب الإقرار بالأخطاء والتجاوزات والانتهاكات التي حدثت، والتي توقف تقرير بسيوني أمام الكثير من تفاصيلها، لا من أجل توثيقها للتاريخ فقط، وإنما لكي نستخلص منها العبرة التي تعين البحرين على أن تسير في طريق الإصلاح السياسي والدستوري، وهذا لن يتم إلا عبر تسوية الملفات الإنسانية الموجعة العالقة والتي تتطلب قراراً سياسياً حكيما وشجاعاً في الآن ذاته.
هي مرحلة جديدة إذن، هكذا نريدها نحن الذين نرغب في أن تستعيد البلاد عافيتها، ولأنها كذلك، أو هكذا يفترض، فإنها تتطلب القطع مع أنماط الخطاب الصانع للكراهية والبغضاء الذي تعب منه البحرينيون، والعمل على بلورة خطاب يليق بهذه المرحلة، ويرتقي إلى استحقاقاتها، وما أكثرها.