ما الذي جرى هكذا فجأة وبلا مقدمات؟ ما الذي حمل تركيا على هذا التحول الدراماتيكي في موقفها تجاه بلدان المنطقة العربية لاسيما أكثر الدول العربية صداقة وقرباً لها لحد الاقتراب من إقامة شراكة استراتيجية، اقتصادية وسياسية، ونعني بذلك تحديداً سوريا؟
كما هو معروف فإن تركيا ومنذ أن استتب الأمر لحزب العدالة والتنمية في السلطة في تركيا في عام ،2002 اتجهت للتقرب من عمقها الجيوسياسي العربي وإعادة توجيه جزء مهم من اهتماماتها الإقليمية والدولية نحو المنطقة العربية، فكان أن عززت مواقعها الاقتصادية وحضورها السياسي والثقافي والاجتماعي في الحياة العربية، وقد نجحت أنقرة بالفعل في استمالة القلوب قبل العقول العربية على المستويين الرسمي والشعبي بفضل النجاحات الاقتصادية الباهرة التي حققها حزب العدالة والتنمية الحاكم داخل بلاده والمواقف العدائية الصارمة التي اتخذتها تركيا ضد “إسرائيل”، واليوم ما أن بدأت علاقات تركيا تسوء مع النظام السوري وتتدهور لحد تحول تركيا إلى مركز الثقل الإقليمي والدولي الرئيسي الضاغط باتجاه تغييره، حتى بدأت بعض الأقلام والمعلقين والمحللين الإخباريين تعيد طرح نوايا تركيا الحقيقية تجاه بلدان المنطقة العربية للنقاش، “فتفتشها” وتشكك فيها وذلك من خلال إعادة تركيب وتفسير السياسات والمواقف التركية المستجدة من الحدث العربي الكبير المسمى بالربيع العربي .
البعض ذهب في تفسيراته إلى ما أسماه انبعاث الروح العثمانية ونزعتها التوسعية في بلاد المشرق والمغرب العربيين، فيما ذهب البعض الآخر في تفسيراته إلى أن التحول المفاجئ في الموقف السياسي التركي، من سوريا خصوصاً، إنما هو تأكيد لتغليب تركيا لأطلسيتها (أي انتمائها لحلف شمال الأطلسي “ناتو”) والتزاماتها تجاه سياساته وخططه التنفيذية على ما عداها من انتماءات تعتبرها النخبة التركية انتماءات فرعية بمقتضى فلسفة بناء الدولة التركية الحديثة التي دشنها مصطفى كمال أتاتورك . حقاً من كان يتصور أن تركيا التي فتح لها النظام السوري فرصة النفاذ إلى السوق السورية لحد التضحية بصناعة النسيج والملابس الجاهزة السورية لمصلحة الواردات التركية الأكثر تنافسية، يمكن أن تحول علاقتها الحميمة مع سوريا إلى علاقة عدائية تصل لحد تهديدها بقطع الكهرباء عن سوريا (وزير الطاقة التركي “تانز يلديز” 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011) .
نعم قد تكون لتركيا حساباتها الإقليمية والدولية، وقد يكون من بينها استغلال فرصة التصدعات الحاصلة في بنيان النظام العربي، بمحاولة مقايضة اشتراكها في الجهود الغربية لتغيير بعض الهياكل السياسية في العالم العربي مقابل تخلي بعض بلدان الاتحاد الأوروبي، لاسيما فرنسا وألمانيا، عن اعتراضاتها على عضوية تركيا الكاملة في الاتحاد الأوروبي .
ولكن الواقعية السياسية التي لا تستقيم مع الشطط العاطفي والعصبوي الفزعوي، تطالعنا بمعطى آخر مختلف، ويتمثل في أن البحث عن العلة يجب ألا يتوقف عند ثنائية العلاقة التركية – السورية التي بدت ملتبسة بعض الشيء، على الأقل لدى البعض منا، المأخوذ على ما يبدو بعسل الاستقرار المستدام ظاهراً والواهي مستقراً .
فبعيداً عن حسابات واستهدافات تركيا بتجربتها التنموية، السياسية والاقتصادية اللافتة، كان لابد لسوريا، وغيرها من الدول والجهات والكيانات المتشككة، بحق ومن دون وجه حق، في النوايا التركية الإقليمية، من أن تكاشف نفسها وتحاسبها على كل ما فات، هل هي متوافقة ومتصالحة مع معطيات واستحقاقات ومستجدات العالم المعاصر أم أنها مازالت تجتر أوهامها في عزلة خانقة بين مؤسستها الاحتكارية للإدارة المجتمعية الكلية، وهي هنا مؤسسة الحكم تحديداً، المتضخمة لحد التوحش، وبين الكتلة العظمى من مجتمعها التي لم تعد تحتمل حالة الخنق المدمرة تلك .
لا جدال في أن كل هذا التركيز الإعلامي والسياسي والدبلوماسي الأمريكي والأوروبي الغربي على سوريا، ليس مبعثه الحرص على إشاعة الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان في سوريا، فلو كانت واشنطن وحليفاتها العواصم الأوروبية الغربية مهمومة لهذه الدرجة بحرية وحقوق وكرامة الإنسان لكان الشعب الفلسطيني المسحوق من قبل العنصرية “الإسرائيلية”، قد نال ولو جزءاً يسيراً من هذا “العطف والحنان” الأمريكي والأوروبي الغربي المتدفق بغزارة هذه الأيام على الشعب السوري .
لا أحد يجادل في ذلك، إنما ليس هو بيت القصيد، فلم يعد مقنعاً ولا مقبولاً الخلود للاطمئنان بالجلوس فوق العروش العاجية والاكتفاء بترداد ذات الخطاب المتكلس بمفرداته المتمحورة حصراً حول منافيات الشموخ والصمود والتصدي، فهذه أهميتها سوف لن تساوي شيئاً إذا لم تسندها تغييرات ملموسة تحوز رضا وقبول الناس، بل إن المؤسسة السلطوية حين تكتشف، متأخرة طبعاً، أن هذه الطنطنات لم تعد تجدي في استدراج الدعم والمؤازرة الشعبية، وبعد أن تكون الملمات قد اشتد وطيسها وتم إحكام طوق الخنق والعزلة عليها، ستتحول من تمثل دور الصامد المتصدي إلى تقمص دور الضحية المتكالبة عليها قوى الاستعمار والاستكبار، وذلك استدرارا لتعاطف وتضامن الرأي العام .
تأسيساً على ذلك وعملاً بالحكمة العربية الرشيدة “صديقك من صدّقك لا من صدْقك”، نقول إن ما لم تدركه النظم التسلطية هو أن هذه التشكيلات التسلطية قد تجاوزها الزمن وأنه لم يعد لها مكان بين نظم الإدارة الكلية الحديثة، وأنه ما لم تبادر هي من تلقاء نفسها لإعادة هيكلة مؤسساتها وأجهزتها الاستبدادية وإفساح المجال أمام القوى الحية الجديدة الصاعدة للانخراط فيها والاسهام في تحويلها ودمقرطتها، فإن العالم الذي لا يحتمل طويلاً تباطؤها، سوف يعمد، بحسب الشواهد الشاخصة، للتدخل لإيقاع التغيير المنشود فيها، وتحديد مستواه إن اقتضى الأمر .
حرر في 8 ديسمبر 2011